إمامُ الله المهدي، و عالَمٌ في رحلةِ بحثٍ عن السلام
ممادو بار صامب
اللجنة العلمية
مقدمة:
(وإذ قال ربك للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) هكذا تكلم المولى مع الملائكة، و هكذا بدأ تاريخ نزول الإنسان على كوكب الأرض لإعمارها. و منذ نزوله بدأ الصراع بين الخير و الشر، و بين الإعمار و الإفساد، و لكن في قرارة نفس الإنسان لم يزل القلق في رفع التحدي الذي وضعته الملائكة عندما تساءلوا استنكارا (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ). فلم يزل الإنسان في رحلة بحثه لإحداث السلام و حقن الدماء و إعمار الكون. فجاءت في خدمته رسالات الرسل رغم تعددها لترسم له الطريق إلى أرض السلام و الأمان، فلم تخرج رسالة عن هذا المعنى الراقي النبيل. ولم يذهبْ رسول و لم تنقض رسالة إلا ليأتي رسول بعده برسالة أخرى تعيد الإنسان إلى طريقه و تُوجهه الى مهمته.
ولم يكن القرن الماضي استثناء لقاعدة الصراع و البحث عن الحل. بل كان من أكثر القرون دموية شهد سلسلة من الدمار و الخراب و سفك الدماء دفعت الإنسان إلى التساؤل مرة أخرى: أين المفر؟
فكانت الإجابة من الموعود المنتظر إمام الله المهدي الذي ظهر في المغرب الأقصى (السنغال) في نهاية القرن التاسع عشر و مستهل القرن العشرين لتُري رسالتُه للإنسانَ العصري كيف يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا و ظلما، و لتكون حلا له و خارطة طريق لتحقيق السلام و الأمان الذي دفع العالم نفسه و نفيسه لتحقيقه. فكان عليه السلام تجسيدا حيا لرد المولى للملائكة (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
# السلام ضالة الإنسان منذ فجر التاريخ:
أراد هابيل أن يستأثر بأخت قابيل، فأمرهما أبوهما أن يقربا قربانا، فتُقبل من أحدهما(قابيل) و لم يُتقبل من الآخر(هابيل) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ليكون أول جريمة على وجه الأرض و أول صورة للصراع الذي سيحدث على الأرض، رسم لنا القرآن أبعادها في سورة المائدة، حيث قال: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴿٢٧﴾ فكان بيانا للدافع الأساسي وراء أول جريمة قتل في الحياة: أنه عندما كان الصراع على أساس مبدأ الفوز و الخسارة، و في حالة عدم الانصياع إلى آليات التحكيم، و عندما تثير النعمة التي في يد الإنسان حقد أخيه و حسده ، لحظته تهتز قواعد السلام و يحل محله الخراب.
ولكن الجزء الثاني من القصة لا يقل أهمية (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿٣٠﴾ فَبَعَثَ اللَّـهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴿٣١﴾ حيث بيّن أن حالة الدمار لا تولّد إلا حالة من عدم الارتياح و عدم الاستقرار، و أنه بعد الخراب يعم جو من القلق يدفع الإنسان إلى البحث عن الحل. فهذا هابيل بعد جريمة القتل يتساءل (يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي) ليفكّر لحظتها أنه أخوه (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).
هكذا بدأت سلسلة جرائم القتل و تهديد السلام لتجعل الإنسان مُتَقاذفا بين أمواج تطويع النفس و الندم.
فـالسلام ،تلك الكلمة المشتقة من "سَلم" و الذي من "السلام" و "المسالمة" و "السلم"، كلمة واضحة المعنى (تعبر عن ميل فطري في أعماق كل إنسان، و تحكي عن رغبة جامحة في أوساط كل مجتمع سوي، و تشكل غاية و هدفا نبيلا لجميع الشعوب و الأمم. و السلام هو الأمان و حفظ الكرامة و العمل على وجود مصالح مشتركة تحقق قيام حضارة تقوم على أساس احترام الذات و احترام الآخر و التمسك بالعدل و احترام العدالة و توفير الرقي لجميع الأجناس البشرية على وجه الأرض) كما ذهب أحد المؤلفين.
و لكن حالة العالم منذ القرن الماضي إلى الآن تحكي عن صورة مخالفة تماما لهذه الحالة الطبيعية.
# قضية السلام من بداية القرن الماضي حتى الآن:
في كتابه "دعوة إلى اتحاد إسلامي" يقول هارون يحيى :(خلال القرن العشرين اندلعت أكثر من 250 حرب راحت ضحيتها 110 مليون شخص. و كانت الحرب الأكثر دموية هي العالمية الثانية(1939-1945) التي شهدت موت 27 مليون جندي و 25 مليون مدني، يعني 57 مليون شخص في 6 سنين). فعندما نركز في الأرقام التي ذكرها المؤلف نجد ضخامة الخسارة و فظاعتها : قتل قرابة 10 مليون شخص في العام، يعني قرابة 27000 شخص في اليوم، أي 18 شخص يقتل كل دقيقة لمدة 6 سنين لتتخيل ضخامة هذا العدد الذي يمثل جزءا من الخسائر الروحية التي شهدتها العالم منذ بداية القرن العشرين .
و لكن غرابة رد فعل الدول لإيقاف هذا النزيف تكمن في اتجاهها نحو التسلح بدلا من البحث عن مقومات السلام و تمويلها. فحسب نفس المؤلف فإن النفقات الدولية من أجل التسلح بلغت 1.2 ألف مليار دولار في حين أن 1.2 مليار شخص يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم. خذ مثالا للولايات المتحدة التي تنفق وحدها 400 مليار دولار للتسلح في الوقت الذي يعيش داخلها 31مليون شخص تحت خط الفقر. و هذه الصورة ترسم شدة الضياع الذي وقع فيه الإنسان كأنه يستغيث من الرمضاء بالنار.
ولم تكن الحروب المهدد الوحيد لعملية السلام فإن عمليات الإبادة الجماعية و التفرقة العنصرية أو الدينية أودت بحياة ملايين من البشر و سجلت لنا أبشع سيناريوهات القتل و الخراب. فجروح إبادة اليهود من القوى النازية، و الأبوريجين في أستراليا، و المسلمين في البوسنه و العرب في فلسطين، و كذلك جروح ضحايا نقل الأفارقة إلى أمريكا و التفرقة العنصرية في أفريقيا الجنوبية لم تزل مفتوحة حتى الآن و مازالت آثارها مستمرة.
SIPRI
ولكن، رغم ما عاشه العالم من خراب و دمار أودى بحياة ملايين من أهلها لكأن الدرس لم يفد كثيرا، لأنه حتى الآن لم تخمد جذوة الصراع و القتل. فحسب تقرير (المعهد العالمي للبحث في قضية السلام في استكهولم ) لعام 2011 تم حصر ما لا يقل عن 15 صراع مسلح على مستوى ضخم في أكثر من 15 مكان في العالم.
فإذا لم يكن التسلح الحل، وكانت أكثر الثورات التي اندلعت في أغلب أنحاء المعمورة بحثا للخلاص قد اتسمت بطابع العنف أو ضلّت عن أهدافها، فإنه يحق للإنسان أن يقف وقفة تأمل ليبحث عن مصدر آخر للحل و طريق آخر للخلاص.
ففي وسط هذه المتاهات و داخل هذه الظلمات تبقى منارة المغرب ساطعة لتدل على طريق الخلاص و لتُري العالم أن السلام الذي يبحثون عنه موجود.
# رسالة إمام الله المهدي خارطة طريق لتحقيق السلام:
(بنا يختم الله كما بنا فتح، و بنا يستنقذون من الشرك، و بنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة بينة كما بنا ألف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك) حديث الطبراني في الأوسط عن علي، هكذا تكلم رسول الله (ص) عن المهدي الذي به خلاص الأمة بل البشرية جمعاء، ذلك الموعود الذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا و ظلما، يملأها عدلا بتعاليمه و إرشاداته التي يتحقق العدل و الأمان بتطبيقها كما ذهب الإمام محمد الصغير في كتابه "تذكرة الجماعة بعلامة الساعة".
فإليك بعض من مبادئ الرسالة المهدوية التي ترسم بكل وضوح و بكامل تفاصيله طريق الخلاص:
(من لا يألف الناس و لا يألفه الناس لا ينزل نصر الله عليه):
التآلف و الحب ذلك المبدأ الإنساني السامي الذي كان سيحقن دماء كل الذين ماتوا في حروب الإبادة العرقية و الدينية، حيث يستلزم هذا المبدأ احترام آدمية الإنسان و قبول بشريته، و بالتبعية الحفاظ على ممتلكاته و مختصاته.
فقد و ضع -عليه السلام- المسألة على بُعدين: البعد الأول (يألف الناس) و يقتضي الانفتاح على الغير بمبادرة خلق العلاقات و المحافظة عليها، و تكتمل الصورة مع البعد الثاني (يألفه الناس)
الذي يقتضي قبول الغير عندما يبادر و تشجيعه. فهل كانت إفريقيا الجنوبية ستعيش خراب التفرقة العنصرية، أو كانت البوسنة و الشيشان و رواندا ستعرف حرب الإبادة لم تم تطبيق هذا المبدأ المهدوي النبيل.
(بدلوا ألقابكم بلفظ الجلالة)
كان المجتمع الذي ظهر فيه إمام الله المهدي –عليه السلام- متسما بطابع الطبقية و التفرقة، فذكر المرء للقبه يكفي لتحديد مركزه في الهرم الاجتماعي الذي يجعل من الناس الذين خلقوا سواسية مجموعات طبقية يضطهد منهم القوي الضعيف. فأمر إمام الله –عليه السلام- أتباعه بمسح الألقاب و بالتبعية مسح كلما يمكن أن يلعب دور التمييز المبني على الأصل أو العرق أو الدين و هذا لا يتنافى مع التمييز الدوري المبني على الأدوار المنوطة بكل فرد لتنظيم المجتمع.
وهل يمكن تطبيق مبدأ الحب و التآلف في مجتمع قائم على التفرقة و التمييز؟! من هنا يأتي هذا المبدأ المهدوي داعما المبدأ الأول و ليسبق دعاة المساواة و العدالة الاجتماعية و ليُهدأ من ثورة و توتّر أفراد المجتمع الذين حكم عليهم بما دون طموحاتهم بسبب أصلهم أو جنسهم، و لتسود العدالة العالم ، وليكون لكل مجتهد نصيبه.
(كل فليأخذ بسيده و ملاذه):
فكما خلقنا سواسية فقد خلقنا أيضا مختلفين في الرؤى و العقائد و الأفكار. فالاختلاف نعمة للخلق عندما يكون راقيا، ويكون على أرضية التآلف و قبول الغير. و لو فهم العالم هذا المبدأ المهدوي و طبقته ما كانت لتعرف الحرب الباردة بين الإيديولوجية الرأسمالية و الشيوعية، و لم يكن اليوم ليعرف ما يسمى بصراع الحضارات و لا ما يسمى اليوم بحرب الإرهاب التي أساسها حب السيطرة و بسط الرؤية و صبغة العالم بصبغة واحدة.
بقبول الاختلاف و قبول الغير فإن الصراع الديني في نيجيريا كان سينتهي. بل كانت العراق و أفغانستان و فلسطين ستتنفس نسيم السلام بعد عشرات من السنين راحت و لم تظهر أمارات توقف لسلسلة الخراب و الدمار فيها.
وعندما ندقق النظر في المبادئ الثلاثة الأولى نجد ترابطها الوثيق حيث يستلزم كل مبدإ المبدأ الذي يليه؛ فمبدأ الحب و التآلف لا يكون إلا عندما يسود جو من العدالة و المساواة فيكون من الطبيعي حب الذوات المتكافئة، و لكن احتمال كون الذوات نفسها مختلفة يستلزم المبدأ الثالث الذي يقبل الاختلاف و يحترمه.
-
فالتمس سبحة غيرها)
الاكتفاء بما سبق من المبادئ فقط يفترض تواجدنا في مدينة "فاضلة" لا يتعدى الأشخاص فيها حدودهم. و لكن حتى مع عموم جو من الحب و التآلف و العدالة و قبول الاختلاف فإن طبيعة البشر تقتضي وقوع بعضهم في أخطاء تستدعي ارتقاء البعض الآخر لمستوى التغاضي عنها و عدم رد المثل بالمثل. فلم يكن "غاندي" أو "مارتن لوثر كينغ الصغير" واضعيْ حجر الأساس لمدرسة اللاعنف في القرن العشرين بل كان إمام الله المهدي الذي رسم لنا أبعاد هذا المبدأ الراقي بقوله:" "
(اتركوهم فإني تركتهم لله):
قد يكون اللاعنف ذريعة في أيدي الضعفاء و لكن تظهر قوته عندما يكون القوي قادرا على رد المثل بالمثل فيمتنع اعتناقا بمبدإ العفو عند المقدرة. و هذا إمام الله المهدي بعدما تمكن من أعدائه و أحكم السيطرة عليهم، أولئك الذين دفعوه إلى فم الأسد ليفترسه ليرجع الأسد طالبا دافعيه فريسة، فيرد سيادته بكل ارتقاء :"اتركوهم فإني تركتهم لله" مذكرا الموقف المحمدي مع طائف "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
-
خذوا ما عندكم و لنقتسم ما عندي):
يأتي هذا المبدأ لتكمل به الصورة و ليقضي على أكبر أسباب التوتر في العالم، حب ما في يد الغير. فهل الاستعمار و الخراب الذي خلفه، و الإمبريالية و الفقر الذي خلفه، و حروب البترول و الدمار التي خلفته كانت ستحدث لو احترم الناس ممتلكات غيرهم و حافظوا عليها؟ و لكن إمام الله –عليه السلام- ذهب لأبعد من ذلك فقال :"ولنقتسم ماعندي". فلقن درس الإيثار القرن للقادة الذين تثور عليهم شعوبهم لأنهم استولوا على خيراتها.
مبادئ مهدوية تضمن قيام المدينة الآمنة ، و تخمد بها جدوة الحروب و الدمار، ليعثر الإنسان -هذا المخلوق الذي تعب من طول رحلة بحثه عن الاستقرار و السلام- ضالته المنشودة.
فكما اقتضت الحكمة الإلهية، التي جعلت لكل ليل نهارا و لكل ظلام شمسا منيرا، فإن ما يعيشه العالم من ظلام منذ القرن العشرين سيعرف نهايته بتطبيق هذا النهج المهدوي الذي اكتمل في مستهل القرن العشرين ليبقى خارطة طريق للإنسان العصري يصل بها إلى مدينة السلام و الأمان.
ممادو بار صامب
اللجنة العلمية