شرعية زكاة المصادر الحديثة للدخل في التراث المهدوي
ممادو بار صامب
اللجنة العلمية
الحاجة أم المعرفة، يتخلص في هذه العبارة السر الموجود وراء اغلب ما توصل إليه العقل البشري من اكتشافات و نظريات قامت لتحل مشكلة قائمة تواجه و تهدد حياة الأفراد و الجماعات. إلا أن الحقل الاقتصادي منذ فجر التاريخ لا يزال يمثل معضلة قائمة. فحل مشكلة الحاجات المتنوعة اللامتناهية أمام الموارد المحدودة تظل المعادلة الصعبة للنظريات الاقتصادية. فكان الاتجاه لبعض التيارات هو الاهتمام بمتغير الموارد و تضخيم الإنتاج ليناسب جماح الحاجات المتزايدة للإنسان. فاندفع الفرد وراء تيار الكسب و توسيع دائرة التملك حتى عندما يكون خارج دائرة القيم الإنسانية والنظم الدينية. فظهرت تيارات مضادة حاولت إصلاح الدمار لتهتم بمتغير الحاجات و تقسيم الموارد عليها إلى الحد الذي يتنافى مع القوانين الطبيعية و الغرائز البشرية التي جبلت على حب التملك و التنافس.
و على مفترق الطرق و مع تأكد الحاجة إلى حل و وضوح المشكلة يقف الإنسان عاجزا عن الوصول إلى المعرفة هذه المرة. و يجدر في هذا المقام أن نذكر أن المعرفة الحقيقية لا تتوفر إلا لمن يقف على أبعاد المشكلة ماضيها و حاضرها و مستقبلها بل إلا لخالق المشكلة و الحل و متغيراتهما. و الدليل على ذلك أن حلول المعادلة الاقتصادية قد قام عليها محمد - ص- من ربه منذ 14 قرنا.
و قد كانت الزكاة ولا تزال متغيرا رئيسيا للحل الإسلامي للمعادلة الاقتصادية لاهتمامها بالمتغيرين كليهما، بمتغير الموارد حيث تربي المكتسب على قيم الإنفاق و المشاركة و عدم الاندفاع وراء تيار الكسب و تجاهل أو استغلال من لا تتوفر لهم نفس الفرص و الآليات، ليكون هدف من توفرت لديهم حياة الترف تحقيق حد الكفاف للجميع؛ و كذلك بمتغير الحاجات عندما تحدد مصارف هذه الموارد المخصومة من أموال الأغنياء لتكون حقا للمحتاجين تساعدهم في امتصاص النقص في ميزانيتهم. فانفردت في كونه حلا متكاملا في الوقت الذي أثبتت فيه الحلول الوضعية التي تحاكيها مثل الضرائب و التوظيفات قصورها و عدم كمالها. و يتجلى هذا الفرق في كون الزكاة عبادة وكونها بعد حد الكفاف و أنها حق للفقراء.
فالزكاة عبادة يقوم الدين بقيامها يدفعها المزكي عبادة و ليس تفضلا على من يقبلها. فبكل بساطة، يعني هذا الكلام أن التهرب الضريبي الذي تعاني منه خزائن الدول، التي تجعل من الضريبة وقودا لها، تواجهه في المنهج الإسلامي أداة رقابية غاية في الكفاءة. فيدفع المزكي زكاة ماله حتى عندما تعجز أجهزة الدولة عن مراقبته و محاسبته، لأنه يدفعها تعبدا و رغبة في رضاء الله و تزكية لنفسه و ماله.
الزكاة بعد حد الكفاية (تؤخذ من أغنيائهم و ترد على فقرائهم). فإذا كانت الضريبة في اغلب الحيان تؤخذ من الجميع -و إن كانت بنسب مختلفة- سواء كانوا رجال أعمال يحصلون على ملايين من الدخل السنوي أو مجموعة من القوى الكادحة الذين لا تكاد تكفيهم دخولهم لضمان قوت عامهم، فان الإنفاق في الإسلام يفرض بعد حد الكفاية و زيادة المال على الحاجات الأساسية التي لا تقوم الحياة إلا بها، و في هذا اعتبار لحالة محدودي الدخل و تحفيزهم. يقول تعالى: و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو.
الزكاة حق للفقراء: فعندما يدفع الطمع من ضمن حد كفايته إلى الامتناع عن أداء الزكاة فإن الإسلام يحاربه عليها بل يحق له أن يصادر نصف ماله عقابا له و حفاظا على حق الفقراء. و يذهب الإسلام لأبعد من ذلك عندما يتأكد أن مال الزكاة يصرف على جماعة المحتاجين دون غيرهم ليكون الهدف من ذلك ضمان حد الكفاية لهم بل و تحويلهم إلى عناصر منتجة تساهم في وعاء الزكاة.
فتختلف عن الضرائب التي تمول المشاريع العامة التي يستفيد منها الغني و الفقير على حد السواء أو يستفيد منها الغني بصورة اكبر في بعض الأحيان. فالمال المدفوع لإقامة طريق سريع قد يفيد أكثر الميسورين الذين عندهم سيارات خاصة و إن كان التمويل من خزينة الضرائب التي تشترك فيها الميسور و المعسور. أما الزكاة فقد حدد الشارع مصارفها تأكيدا لوصولها إلى أصحابها.
ولهذه اﻷهمية الخطيرة للزكاة حرص النبي صلى الله عليه وسلم في حياته على بيان مقاييس الزكاة في اﻷموال التي كانت شائعة في بيئته من زروع و غنم و نقود و ركاز و عسل و غيرها. و سعى في جمعها و تقسيمها على مصاريفها.
و السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، لماذا هذا الجدل الكبير حول أوعية الزكاة الحديثة التي تتمثل في الرواتب و المستغلات و إيرادات المهن الحرة؟
و أمام جماعة المعارضين الذين يحتجون بحرمة مال المسلم وعدم اقتطاعه إلا بنص صريح؛ أو يؤيدون عدم تجاوز ما اعتبره الرسول وعاء للزكاة؛ أو يخافون الثني و الازدواج، أتساءل أين حق الفقراء في حد كفايتهم و حقهم في أموال أغنياء المجتمع إذا استثنت من الوعاء الزكوي هذه المستجدات التي تمثل نصيب الأسد من ثروتهم ليعجز الباقي عن تحقيق المقصد من هذا المبدأ الإسلامي العريق.
و أضم صوتي إلى صوت العالم الجليل محمد الغزالي عندما تساءل¹: (منذ أيام كنت اقرأ في كتاب فقه استوعب الأحكام التقليدية في العبادات فوجدت مثلا أن اﻷوراق النقدية لا تجب فيها زكاة عند إمامين من الأربعة...فاستغربت الكلام الذي ينقصه الجد...إن العالم اليوم يتعامل كله بالأوراق النقدية و قد توارى الذهب في خزائنه العتيدة. فما معنى نفي الزكاة في هذه الجنيهات و الدنانير و غيرها؟ ...و قرأت كذلك أن زكاة الزروع و الثمار إنما تخرج من اﻷقوات التي تدخر كالقمح و الشعير و التمر و الزبيب و أن هذا رأي أغلبية الأئمة. و هذا الرأي ربما اعتمد على ملابسات محلية في جزيرة العرب لا معنى بتاتا لاستصحابها في ارض الله الواسعة. فكيف يتصور دينا أن زارع القطن و القصب لا تجب في ثروته الطائلة الزكاة في حين تجب على زارع القمح و الأرز؟) و يواصل حضرته : (و الغريب ان القران الكريم عندما نبه إلى حق الله في الزروع و الثمار ضرب الأمثلة بإنتاج الحدائق و ما إليها وهو الذي أنشأ جنات معروشات و غير معروشات و النخل و الزرع مختلفا أكله و الزيتون و الرمان متشابها و غير متشابه كلوا من ثمره اذا أثمر و آتوا حقه يوم حصاده الانعام 141؟ و يتابع فضيلته :( إن الإسلام لا يتصور في حقه أن يفرض الزكاة على فلاح يملك خمسة أفدنة و يترك صاحب عمارة تدر عليه محصول خمسين فدانا. أو يترك طبيبا يكسب من عيادته في اليوم الواحد ما يكسبه الفلاح في عام طويل)
و قد تساءل الإمام الغزالي منذ عشرات السنين و لم يكن وحيدا في كفاحه فتكاد الأغلبية اليوم توافق على وجوب إعادة النظر بل على شرعية أداء الزكاة في الأنواع الجديدة من مصادر الدخل، من رواتب و استثمارات و إيرادات مهن حرة. و هذا ما أقرته توصيات ندوات الزكاة المختلفة وهو الاتجاه المتخذ من أغلب دور الزكاة و بيوتها في مختلف الدول الإسلامية.
و لكن الغزالي لم يكن الأسبق في هذه الساحة. فالاعتناء بالزكاة و توسيع دائرتها و الاهتمام بحقوق الفقراء و المحتاجين تعتبر ركيزة من ركائز الدعوة الأمامية و مبدأ من مبادئ المنهج التجديدي للإمام المنتظر -عليه السلام- الذي ظهر في أرض السنغال في أقصى الغرب عام 1883 (أكثر من نصف قرن من الزمن قبل أول طبعة لكتاب الغزالي). و لو قرأ محمد الغزالي ما تركه سيدنا إمام الله -عليه السلام- من تراث حول الزكاة لشفى به غليله ووقف على حل لتساؤلاته من المنبع ذاته و الذي به خلاص الأمة بل البشرية جمعاء
ففلسفة الزكاة في النهج الإمامي قائمة على مبادئ عدة تظهر جليا في خطبه و تعاليمه-عليه السلام- و تتمحور حول خطورة هذا الركن أهميته، و كونه الحل الوحيد ﻷزمات الفقر المعاصرة، و ضرورة توسيع نطاقه ليشمل وعائه ما استجد و ما سيستجد من طرق و وسائل الكسب المشروع.
نرى إمام الله -عليه السلام- يعقب كلامه عن الزمان واضطرابه بحثِّه لنا على الصدقة و الزكاة. كأنه يصور قبل قرن من الزمن حالة العالم اليوم بعد ما صار قرية كوكبية اختلط فيها الشرق بالغرب و الشمال بالجنوب، فأثرت المعاملات المالية الربوية المنحرفة في الغرب على
1 الإسلام و الأحوال الاقتصادية ص110 ص111
بقية بقاع الأرض ليعيش الجميع تحت وطأة اﻷزمة المصرفية الاقتصادية العالمية فيقول: (اعلموا أن الزمان اضطرب واختلط و ذلك فناء) و يعقب قائلا: (اجتهدوا في الصدقة لأنها تدفع البلاء و تقي مصارع السوء و تجلب الرزق و تكون ظلا لصاحبها يوم القيامة). أليس هذا ما نتمناه اليوم دفع البلاء من أمراض و مصائب و منع مصارع الحروب و الخلافات و جلب الفرص لتحقيق حياة آمنة و كريمة لكل فرد؟ فالحل في الصدقة و التعاون. يقول تعالى: يمحق الله الربا و يربي الصدقات .
و يتابع وصفته في حل أزمات الاضطراب قائلا:(و أتعبوا جوارحكم بالصلاة والصوم ونزهوا مالكم بالزكاة) و يؤكد في مقام آخر كون الزكاة و مشتقاتها طريق الخلاص قائلا : (إن أردتم النجاة فأخلصوا عملكم و أكثروا من ذكر الله في كل وقت و تندموا على مافاتكم و زكوا مالكم بصدقة و هبة و إعانة إخوانكم) أليس هذا ما تحاول تحقيقه نظرية الطريق الثالث الذي يتمناه الغرب بعد ما باءت كل محاولتهم في حل المعادلة للاقتصادية بالفشل؟ فالزكاة عند إمام الله المهدي-عليه السلام- أساس حل الأزمة ا لاجتماعية و الاقتصادية المعاصرة.
و للأهمية القصوى للزكاة نجده -عليه السلام- يحذر في أكثر من مكان من الإهمال بها(من لا زكاة له فلا صلاة له)، ( و اعلموا أن الزكاة مال الله و من أخرجها كما يتزكى سيجزى الجزاء الأوفى و من نقصه أو أتلفه فعليه ذنب). فنجده يركز على الدافع الشخصي لأداء الزكاة في وقت تمثل فيه اﻷموال الباطنة النصيب الأكبر من الوعاء الزكوي العام و التي كانت ستفشل أجهزة الدولة في محاولة ترقبها و حسابها.
و بيت القصيد في هذه المسألة كونه -عليه السلام- يتبع مبدأ التوسيع للوعاء الزكوي ليُدخل فيه كل ما يكتسبه المسلم من حلال، فيطابق ظاهر الآيات القرآنية الآمرة بالإنفاق و التزكية خذ من أموالهم صدقة فإذا كان كل يمتلكه الشخص و يستفيد به على وجه معتاد مالا فكيف يمكن استثناء الرواتب والحوافز و كل الأموال المستفادة من إيرادات مهن و استثمارات من المال المزكى؟؟ . فنجد الإمام محمد الصغير في تذكرته يقول :(و أمرهم بايتاء الزكاة من زرع و ماشية و عين اي ذهب و ورق و أجرات شهرية مستدلا بقوله تعالى يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم و مما أخرجنا لكم من اﻷرض و إن اﻷجرات الشهرية من طيبات ما نكسب فعلينا أداء زكاتها امتثالا لأمر الله تعالى)
و بهذا المبدأ نجده يجزم على أداء الزكاة من كل أنواع الزروع و الثمار و عدم حصرها في اﻷقوات المدخرة بل من كل إيرادات الكسب الحلال من مشاريع صناعية أو خدمية أو استثمارية. فلا يستثني الطبيب في عيادته و سائق التاكسي في سيارته و رجل الأعمال في شركته و استثماراته. ﻷنهم جميعهم يحتاجون إلى تزكية أنفسهم و أموالهم و مساعدة ذويهم.
ولمن أعلوا أصواتهم دفاعا عن حرمة مال المسلم يرد قائلا : ( و لا أسألكم مالكم و لاما اتخذتموه لمقتناة و لكن أسألكم مال الله الذي علي ذمتكم و أمر الله بإخراجه في وقته كاملا) و نفهم من هذا الكلام اعتناءه بشرط النماء الذي يصعب تحقق الغنى بعدمه، باستثنائه ما تقوم الحياة به (ولا اسالكم مالكم) و مقتنيات المرء غير النامية التي كانت ستأكلها الزكاة لو فرضت عليها (و لا ما اتخذتموه لمقتناة) و تأكيده على عدم تأجيل إخراج المال (في وقته كاملا) فلو كان الدخل المستفاد من راتب أو أجر أو فائدة دوريا لوجب إخراج مال الله منه حين استفادته. فيؤكد لنا شرعية ما ثبت عن ابن مسعود و عمر بن عبد العزيز و الإمام أحمد في تزكيتهم للمال المستفاد فور الحصول عليها. و عدم اعتبار الحول في مثل هذا ما ذكره ابن قدامة في المغني: و الفرق بين ما اعتبر له الحول و ما لم يعتبر له أن ما اعتبر له الحول مرصد
1 المغني لابن قدامة- الجزء الرابع كتاب الزكاة
للنماء. فالماشية مرصدة للدر و النسل و عروض التجارة مرصدة للربح وكذا الأثمان فاعتبر له الحول لأنه مظنة النماء ليكون إخراج الزكاة من الربح فانه أيسر و أسهل. ولأن الزكاة إنما وجبت مواساة.
ولم نعتبر حقيقة النماء لكثرة اختلافه وعدم ضبطه ولأن ما اعتبرت مظنته لم يلتفت إلى حقيقته كالحكم مع الأسباب ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأموال فلا بد لها من ضابط كي لا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات فينفد مال المالك. أما الزروع و الثمار فهي نماء في نفسها تتكامل عند إخراج الزكاة منها فتؤخذ الزكاة منها حينئذ ثم تعود في النقص لا في النماء فلا تجب فيها زكاة ثانية لعدم إرصادها للنماء. والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض بمنزلة الزرع و الثمرة
و يمكن أن نقيس على ما ذهب إليه ابن قدامة دخول الرواتب و الأجور و المستغلات. فهي فائدة العمل و رأس المال مثل الزرع الذي يعتبر فائدة الأرض. لنفهم لماذا أمر امام الله -عليه السلام- بإخراج زكاة المستفاد فورا في وقته كاملا.
و لمن استغربوا انفراده في زمنه بهذا الحكم الذي كان يمثل رأي الأقلية القليلة يقدم على كلامه عن الزكاة في خطبته الثالثة :(و سيد هذا الزمان يأتي و يخلف العلماء فكفروا به و هو يدعو بالدين و الهدى إلى الله).
و ينبه كل مهتم بنجاته و خلاص الأمة تعقيبا :(فإن الرسول لا يجب عليه إلا البلاغ و أنا بلغت و من سمع و أطاع فحسن و من سمع و لم يطع فعلى نفسه)
جزى الله عنا إمام الله المهدي-عليه السلام- الذي ظهر تجديدا للنهج المحمدي و إرشادا للأمة إلى طريق الخلاص. قال تعالى :و يقوم إن آتني الله رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها و انتم لها كارهون فهل من مدكر؟
ممادو بار صامب
اللجنة العلمية