top of page

شمولية الرعاية في تعاليم إمام البشرية

سيدنا عيسى صامب

اللجنة العلمية

لقد شاءت المشيئة الربانية أن تكون طبيعةُ الحياة البشرية قائمةً على أساس التفاوت، وانقسم الخلْق نتيجة لذلك إلى آباء وأولاد، زوجات وأزواج، سادة وعبيد، رؤساء ومرؤوسين، زعماء وخدَمة، قضاة ومحكومين، أئمة ومأمومين ... وهذا التفاوت ضروريّ لتنوّع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض. "ولو كان جميعُ الناس نُسخا مكرورة، ما أمكن أن تكون الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة. والذي خلَق الحياة وأراد لها البقاء والنمو خلَق الكفايات والاستعدادات متفاوتةً تفاوتَ الأدوار المطلوب أداؤها"[1].وهذا التفاوت الموجود في الكفايات والاستعدادات، هو أساس التفاوت في المناصب التي يحتلّها أفراد المجتمع والدرجاتِ التي يرتفع بها بعضهم على بعض.

ولقد نبه "سيدنا إمام الله" إلى أن تلك المناصب ليست مناصب تشريفية، لكنها  مسؤوليات ثقيلة يُسأل عنها متحمّلوها يوم القيامة. قال "سيدنا إمام الله": "كلّكم راع، وكلّ راع مسؤول عن رعيّته؛ والإمام الأعظم يُسأل عن بلده، والقاضي يُسأل عن قضائه وكيف قضى، وصاحب القرية يُسأل عن حال قريته، وصاحب الدار يُسأل عن حال داره، وصاحب البيت يُسأل عن حال بيته، والمرأة تُسأل عن بيت زوجها وفراشها، والعبد يُسأل عن مال سيده كيف حفظه، وكذلك الأعضاء تشهد على أصحابها ممّا كانوا يفعلون"[2].

هكذا تشمل مسؤولية الرعاية - في توجيهات "سيدنا إمام الله" - جميع نواحي الحياة؛ إنها مسؤولية عامة شاملة لا يخرج عن نطاقها أحد. وعندما نتتبّع خطبه نلاحظ كيف كان يولي مزيدا من الاهتمام لرعاية العيال خاصة؛ فما من خطبة يخطبها إلا ويَسأل الأولياء عن أحوال العيال في مستهلّها. ولقد أفاض في ذلك خلال خطبته الأولى حيث قال : "أوصيكم بالعيال، فإن العيال يسوقون أولياءهم حتى يُوقفوهم بين يدي الله، وقالوا يا ربنا إن هذا وليّنا لم يأمرنا بطاعة الله ورسوله، فخذ لنا منه حقنا، فحُوسب الحق، إمّا أن يعطيهم من حسناته مثل حقّهم إن كانت له حسنات، أو يأخذ من وزرهم مثل حقّهم إن لم تكن له حسنات. وذلك بسبب حيرتهم ودهشتهم إذا رأوا النار وعذابها ولهبها وشررها ولم يروا منجاة، ولذلك يطلبون حقّ عدم أمر الولي والأدب "[3]

       بعد هذا الإجمال أخذ "سيدنا إمام الله" في تفصيل الموقف كاشفا الستار عن الكيفية الشديدة التي يطالب بها كلّ من النساء والإماء والأولاد والعباد وغيرهم بحقوق رعايتهم من أولياءهم يوم القيامة؛ "فقالت النساء: يا ربنا إنّ هذا زوجنا في الدنيا، وكان يضربُنا لفراشه، ولم يضربْنا لعدم طاعة الله ورسوله والصلاة والغسل والوضوء وعدم إصلاح الصوم، ولم ينهنا عن اللهو والرقص والغناء والفضول والكلام القبيح، يا ربنا خذ لنا منه حقنا. ثم قال الأولاد: يا ربنا خذ لنا حقنا من والدنا هذا، لم يسمّنا اسما من أسماء الصالحين، ولم يؤدّبنا، ولم يعلّمنا شيئا من كتاب الله، ولم ينهنا عمّا نهى الله عنه، ولم يأمرنا بما أمر الله به، تركَنا وأطلقنا نفعل ما نشاء من القبيح. ياربنا خذ لنا حقنا منه. ثم قال العبيد والإماء: يا رب إن سيدنا هذا كان في الدنيا يأمرنا بالعمل، ويرسلنا في حوائجه، ويتعظم علينا، ولم يأمرنا بطاعة الله ورسوله، فمتى نزلنا من شغله الدنيوي تركنا وأطلقنا نفعل ما نشاء، ولم يعلمنا من أوامر الله شيئا، ولم ينهنا عما نهى الله عنه، يا ربنا خذ لنا حقنا منه. والله رب عادل يوفي كلّ خَلق يوم القيامة حقّه حتى لا ظلم بينهم. وكذلك كلّ ما ملكتموه من الغنم والبقر والفرس والإبل والديك وغيرها، بل كل شيء فيه حقّ يوم القيامة، وكلُّ ذي حقّ يأخذ حقّه ، لأن الله حرّم الظلم على نفسه وجعله محرّما بين العباد"[4].

بهذا الأسلوب التهديدي كان "سيدنا إمام الله" يخاطب أولياء الأمور من أجل إشعارِهم بالمسؤولية التربوية الثقيلة التي يتحمّلونها، والتي يجب أن يشمّروا عن ساق الجد للوفاء بحقوقها، حتى لا يُطالَبوا بها عند ذلك الموقف الرهيب، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا.

وكما أفاض "سيدنا إمام الله" في مسؤولية الأولياء داخل البيئة الأسرية، كذلك بسَط القول في مسؤولية الشيوخ إزّاء مريديهم، وهي مسؤولية ثقيلة هي الأخرى على الرغم من أنّ كثيرا من شيوخ العصر يستهينون بها. قال "سيدنا إمام الله": "اعلموا أنه واجب على كل شيخ أن يكون حريصا على طاعة الله ورسوله، ويأمرَ تلاميذه أن يطيعوا الله ورسوله، ويخوّفَهم من عذاب الله، ويذكّرَهم، ويهدّدَهم ويزجرَهم، وأن لا يجعل شيئا أهمّ عنده منهم من طاعة الله ورسوله. ومن كان يدعو إلى الله وزعم أنه في طريق مستقيم ويطلب تلاميذ وجعل همّه حطام الدنيا، أو تركهم يفعلون شهواتهم ولم يزجرهم، أو وعدهم أنه يُنجيهم بغير طاعة الله ورسوله، فكأنه أسقط نفسه في سخط الله وأضلّهم وأضاعهم، وهم يطلبون يوم القيامة منه الحقّ إن جهلوا كذبه، وإن لم يجهلوا كذبه إلا أنهم رأوا خفّة دينه وتيسيرَه لهم ما كانوا عليه من المعصية، لا ينفعهم الطلب منه شيئا"[5].

هكذا كان "سيدنا إمام الله" ينبّه الشيوخ على مسؤوليتهم العظمى إزّاء مريديهم وهي مسؤولية التربية الحسنة. ولقد كان عليه السلام أولّ مُؤتمِر بهذا الأمر، وأوّل مطبّق لهذا المبدإ التربوي قبل أن يدعو الشيوخ إليه؛ فلقد كان خيرَ أسوة لتلاميذه في أفعاله وأقواله، ولم يزل قط يحثّهم على الاقتداء به. ويظهر ذلك جليّا في قوله: "كل ما أمرتكم به من العمل الصالح البدني، والقول الصالح اللساني، إن شاء الله أكون أمامكم ولا تبلغونني فيه، فانظروني واقتدوا بي في فعلي وقولي إن وفّيتم أُدخِلْكم طريقَ النجاة"[6] . هذا، ولفرْط اهتمامه بتربية تلاميذه، نجده يخاطبهم في سياق آخر بقوله: "إن رأيتم من هو خير مني أمرا أو أكثر مني نهيا، فاتركوني واذهبوا إليه"[7]، ذلك لأن ما يهمه هو أن يكونوا ربانيين ليس إلا، لكن، هيهات أن يجدوا  مثله ناهيك عمّن هو خير منه!

إن هذا النداء الذي يرفعه "سيدنا إمام الله" إلى جميع أبناء المجتمع على اختلاف درجاتهم - وهو نداء الإحساس بمسؤولية الرعاية – تضمن تلبيتُه حياةَ الأمن والسعادة للمجتمع. وهي وحدها التي تدفع الناس إلى الإخلاص والوفاء وكل خلق فاضل، وذلك نتيجة إحساسهم المستمر بأن ثمّةً ناقدا بصيرا يُراقب أفعالهم، وسيقدّمون له تقارير صادقة عن أعمالهم، يوم يقول جل علاه في شأنهم: ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ)[8].  

سيدنا عيسى صامب

اللجنة العلمية

 

 في ظلال القرآن: سيد قطب (في تفسير سورة الزخرف)[1]

 إرشاد عباد الله إلى الصواب من خطب سيدنا إمام الله: محمد الصغير غاي، الخطبة الأولى، ص: 8- 9[2]

 المصدر نفسه، الخطبة الأولى، ص: 9[3]

 المصدر نفسه، الخطبة الأولى،ص: 9- 10[4]

 إرشاد عباد الله إلى الصواب من خطب سيدنا إمام الله: محمد الصغير غاي، الخطبة الأولى، ص: 11- 12[5]

 المصدر نفسه،  الخطبة الأولى، ص: 8[6]

 المصدر نفسه، الخطبة الرابعة، ص: 28[7]

 سورة الصافات، الخطبة الرابعة، ص: 28[8]

bottom of page