بشْرَى الْمُحِبِّينَ وَتَيْقِيظُ الْجَاهِلِينَ للشيخ مختار لو
بسم الله الرحمن الرحيم
إنه تقديم بسيط لأوّل كتاب أُلـّف في سيرة سيدنا إمام الله المهدي وهو " بشرى المـحبـين و تيقيظ الجاهلين " لمؤلّفه الشيخ مختار لُو ذلك العلاّمة الذي كان أحد كبار صحابة سيدنا إمام الله وواحدا من كـتبته ، ويـمـثل هذا الكتاب مرجعا مهمّا من أغنى مراجع الطريقة اللاهينية .
استهلّ الشَّيْخُ مُـختارْ لُو كتابه بمقدّمة حمد فيها الله سبحانه وأثنى عليه بما يليق بجلاله ، وصلّى وسلّم على سيدنا محمّد خير خلقه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين قبله ، ثمّ ذكر الدّافع الأساسيّ الذي دفعه إلى تأليف هذا الكتاب ، وهو أمْر صادر مـمّن لا قدرة له على مخالفة أمره على حد تعبيره ، وهو سيدنا عيسى روح الله الذي طلب منه أن يكتب شيئا من معجزات سيدنا إمام الله ، ليكون ذلك مرجعا يَرجع إليه الذين يهمّهم أمر البحث عن سيرته صلّى الله عليه و سلّم.
وقد أشار المؤلّـف إلى كـثـرة هذه المعجزات التي تفوق الحصر والتي وسـمـها بأنها " أكـثرُ من النجوم والحصى والرمل " ، ووضَّح بأنه يذكر منها قليلا مما يقدر أن يفشيه بين الأحباء . وبعد ذلك أعلن العنوان الذي اتـّخذه لهذا الكتاب وهو "بُشْرى الـمُـحِبّـين و تيـْقِيـظُ الجاهليـن " ، وبعد ذلك مباشرة دخل في موضوع الكـتاب.
بدأ بسرد بعض الأخبار التي تخصّ ظهور الإمام المهدي في المغرب الأقصى والتي وردتْ في "نزهة المجالس " و "التذكرة " للقرطبي وفي "مشارق الأنوار " للعدوي وبيـّن مدى انطباق هذه الأخبار على سيدنا إمام الله ، ثم أرْدف ذلك بذكر بعض ما أخبرهم به سيدُنا إمامُ الله من أخبار غيْـبيّة تبــيّـن كيف كان الله سبحانه يـُهـيّئ لظهوره صلّى الله عليه و سلّم . ثم ذكر بعض التصرّفات العجيبة التي كانت تصدر من سيدنا إمام الله منذ أنْ كان طفلا رضيعا إلى أن بلغ مبلغ الرجال من عجائب تمثــّل إرهاصات تدلّ على أنّ هذا الطفل العجيب سيكون له مستقبل عظيم. وذكر كذلك بعض الخصال الكريمة و الأخلاق الحسنة التي كان يتحلّى بها في صغره وفي وقت شبابه و بعضَ الأحداث التي جعلها الله سبحانه علامة لقرب مجيء الأمر الأعظم إليه ، مثل النجم المضيء ذي الذنـَب الذي أطْلعه الله في المشرق في آخر المئة الثالثة بعد الألف من الهجرة النبوية و مكث في السماء مدّة سنة يراها القاصي والداني إلى أن غرُب في المغرب الأقصى.
بعد ذلك ذكر المؤلـّف ملابسات دعوة سيدنا إمام الله التي جهر بها صباحَ الأحد الأوّل من شعبان سنة 1301 هجرية و كيف تلقّاها قومه في بادئ الأمر باستغراب و إنكار، كما ذكر التـهم الجُـنونيــّة التي اتـّـهمه بها قومه ، وكيف كان يتصرّف إزّاءها بصبر وجلد إلى أن نـُصر الحقُّ على الباطل فذهب الزّبدُ جُفاء ومكث ما ينفع الناس ، وأيــّده الله بالآيات البيـّنات كما أيــّد المرسَلين قبله بالمعجزات الظاهرات . وبعد ذلك شرع المؤلـّف في سرد أمثلة من المعجزات التي أظهرها الله سبحانه على يديْ سيدنا إمام الله فكانت شهادةَ عدل ٍتدلُّ على صدْق دعْواه صلّى الله عليه وسلّم .
وعند سرْد هذه المعجزات ذكر المؤلـّف قصّة سيدنا إمام الله مع السّلطات الاستعمارية وما تضمنـتــْه هذه القصّة من أحداث لطيفة تعْكس علوّ منزلة إمام الله و نصرة الله له حيثما حلّ وارتحل .
وقف المؤلـّف كذلك موقف اسْتعراض للسّياق التاريخي ّالذي دعا فيه سيدنا إمام الله و كشف الغطاء عن التصرفات الغريبة التي لا تـمُتّ إلى الإسلام بصلة و التي كان الناس يـمـارسونـها في ذلك الزمان ، و كيف أنــْقذهم سيدُنا إمامُ الله من عبادة الأصنام إلى عبادة ربّ الأنام و ألزمهم كلمة التقوى التي هي شعار توحيد الله تعالى في صفاته و أفعاله
بعد هذا فصّل المؤلـّف مجدَّدا في أخلاق سيدنا إمام الله الكريمة التي كان يتخلّق بها و يعامل بها أحبّاءه و أعداءه على حدّ سواء. وختم الكتابَ بسرْد سيرته في الأيام الأخيرة من حياته أيامِ الـمـِحن والبلاء ، وكيف كان يعيشها بصبر وجلد مع إكثار الوعظ والوصيّة لأصحابه في الاجتهاد في الفرائض والسنن والرغائب وإكـثار الصّدقة على الـمساكين و إعانة الـمسلمين والصبر على الشّدائد و الشّكر على نعماء ربّ العباد إلى أن تـوفّاه الله بطريقة لطيفة تلمح إلى سـمـوّ مقامه صلّى الله عليه و سلّم .
و إذا عرفْنا أنّ الـمعجزة هي الشهادة الوحيدة التي تدلّ على صدق رسالة المرسلين نُدركْ من ثـمّة َالقيمة الكبرى لهذا الكتاب الذي لا يستغني عنه أبدا من يبحث عن سيرة سيدنا إمام الله المهديّ .
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما
الحَمْدُ للهِ الّذِي فَتَحَ لِأوْلِيَائِهِ أَبْوَابَ الْوَسَائِلِ ، وَأَجْرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ الْكَرِيمَةِ أَنْوَاعَ الْفَضَائِلِ ، فَمَنِ اقْتَدَى بِهِمِ انْتَصَرْ وَاهْتَدَى ، وَمَنْ حَادَ عَلَى طَـرِيقِهِمَ طُـرِدَ وَتَرَدَّى ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِأَذْيَالِهِمْ أَفْلَحَ وَنَجَا ، وَمَنْ قَابَلَهُمْ بِالِاعْتِرَاضِ انْـقَطَعَ وَهَلَكَ، وَمَنْ سَبَّهُمْ وَلَمْ يَتُبْ خَسِرَ وَذَلَّ دُنْـيَا وَأُخْرَى ، كَمَا قَالَ أَهْـلُ اللهِ شِعْرًا :
لُحُومُ أَهْـلِ اللهِ مَسْمُومَة آكِلُهَا سَرِيعُ العَـطَبِ
أَحْمَدُهُ حَمْدَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ، وَأَشْكُرُهُ شُكْـرَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ خَيْرَ الدُّنْـيَا وَالْآخِرَةِ بِـيَـدِهِ ، وَاسْتَعِينُهُ اسْتِعَانَةَ مَنْ لاَ يَرْجُو فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلاَّ هُـوَ،الْفَاعِلُ لِمَا يُرِيدُ ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ .
وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيْـرِ الْخَلْقِ ، وَعَلَى ءَالِهِ أَجْمَعِينَ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ، وَعَلَى ءَالِهِمْ عَدَدَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى مُـنْـتَهَى الْأَبَـدِ .
أَمَّـــــا بـــَــــــعْـــــــــدُ
أَمَرَنِي مَنْ لَا قُـدْرَةَ لِي أَنْ أُخَالِفَهُ، أَنْ أَكْتُبَ شَيْـئًا مِنْ مُعْجِزَاتِ سَيِّدِنَا إِمَامِ اللهِ وَإِمَامِ الْعَارِفِـينَ، وَأَنَا قَصِيرُ الْبَاعِ فِي ذَلِكَ، وَقَـلِيلُ الْفَهْمِ وَكَثِـيرُ النِّسْيَانِ.
وَكَيْفَ يُدْرِكُ قَـعْـرُ الْيَمِّ بِالنَّـزْحِ بِالْيَدِ ، وَمُعْجِزَاتُهُ أَكْثَرُ مِنَ النُّجُومِ وَالْحَصَى وَالرَّمْلِ ، لَكِنْ أَذْكُرُ مِنْهَا ، بِقُدْرَةِ اللهِ ، شَيْـئًا قَلِيلًا مِمَّا قَدَرْتُ أَنْ أُفْشِيَهُ بَيْنَ الْأَحْبَابِ وَالْمُؤْمِنِيـنَ ، الَّذِينَ لَمْ يَرَوْهُ وَسَمِعُوا بِهِ، وَسَمَّيْتُـهُ : " بُـشْرَى الْمُحِبِّينَ وَتَيْقِيظُ الْجَاهِلِينَ "
وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّـدٍ وَسَلَّمَ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَفَعَ قَوْمًا وَوَضَعَ آخَرِينَ كَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ:" وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ".
فَــــهَـــذَا بَعْضُ مَا سَمِعْنَاهُ وَمَا رَأَيْنَاهُ بِأَعْيُـنِنَا مِنْ أَخْبَارِ الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، وَإِمَامِ اللهِ الَّذِي كَانَ يَرْجُوهُ أَهْلُ الْحَقِّ. وَقَـرَأْنَا فِي الْكُتُبِ أَنَّ الْإِمَامَ الْمَهْدِيَّ يُولَدُ فِي الْمَغْرِبِ وَأَنَّهُ سَيَكُونُ خَامِسًا لِلْأَرْبَعَةِ الَّـذِينَ مَلَكُوا الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا وَهَذَا الْقَوْلُ كَانَ فِي" نُـزْهَـةِ الْمَجَالِـسِ "، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَيْ الإمَامُ الْمَهْدِيُّ يَظْهَرُ فِي الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فِي جَبَلِ الْمَغْرِبِ، وَكَذَلِكَ فِي كِتَابِ "مَـشَارِقُ الْأَنْـوَارِ"وَلَمْ يَخْتَلِفَا عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلُ اجْتَمَعَ بِفِعْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى فِعْلِهِ وَقَـدَرِهِ .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَنَّهُ مَكَثَ فِي مُصَلَّى كُورْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ كُلَّ لَيْلَةٍ يَدُورُ الدُّنْيَا فِي كُلِّ جِهَةً، وَمُصَلَّى كُورْ قِيلَ :بِأَنَّهُ مُصَلَّى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِيلَ مُصَلَّى لِخَضِر عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَكَانَ يَزُورُهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ إِمَاِم اللهِ وَلَمَّا ظَهَرَ إِمَامُ اللهِ تَرَكُوهُ وَأَكَلَ الْبَحْرُ الْمَوْضِعَ.
وَأَخْبَرَنَا الْإِمَامُ الْمُنْتَظَرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ اللهُ إِتْيَانِي فِي الدُّنْيَا، أَدَارَ الدُّنْيَا حَتَّى مَا كَانَ فِي الْمَشْرِقِ صَارَ فِي الْمَغْرِبِ، وَمَا كَانَ فِي الْمَغْرِبِ صَارَ فِي الْمَشْرِقِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الدُّنْيَا هَـزَّةَ الْأَرْضِ وَلَمْ يَعْرِفُوا سَبَبَ ذَلِكَ.
وَأَنَا لَمَّا أَرَادَ اللهُ نُزُولِي نَظَرْتُ فِي نِسْوَةِ الْعَجَمِ وَمَا رَأْيْتُ أَسْتَرَ وَأَلْبَسَ مِنْ نِسْوَةِ اللِّبُ ، وَاللِّبُ قَبِيلَةٌ مِنْ وُلُوفْ سَاكِنُونَ فِي الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، نُوتِيُّونَ وَبِسَبَبِ السِّتْرِ وَاللِّبَاسِ نَزَلْتُ مِنْهُمْ .وَلَمَّا قَضَى اللهُ مَجِيئِي مِنْهُمْ، وَكُنْتُ فِي وَقْتِ رِضَاعِي أَنْ غَضِبَتْ أُمِّي ذَاتَ يَوْمٍ، وَذَهَبَتْ إِلَى دَارِ أُمِّهَا، فَجَعَلْتُ أَبْكِي وَلَمْ أَسْكُتْ حَتَّى رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِ أَبِي. وَكُنْتُ - لَمَّا قَدَرْتُ عَلَى الْمَشْيِ - إِنْ مَشَيْتُ حَتَى وَطِئَتْ رِجْلِي نَجَاسَةَ الدِّيكِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَفْتُ أَبْكِي حَتَّى تُغْسَلَ رِجْلِي .وَلَمَّا كُنْتُ صَبِيًّا إِنْ أَرْسَلَنِي أَبِي إِلَى الْفَلَاةِ لِأَطْـلُبَ عُودًا أَوْ قِمْطًا ، أَذْهَبُ وَأَرْجِعُ بِلَا شَيْءٍ مَعِي، وَيَقُولُ أَبِي أَيْنَ الْعُودُ ؟ فَأَقُولُ لَهُ: لَمْ أَجِدْ شَيْئًا لِأَنَّ الْأَشْجَارَ تَسْجُدُ لِي وَتُسَلِّمُ عَلَيَّ، فَيَسْكُتُ أَبِي وَيَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ.
وَكَانَ مِنْ خِصَالِهِ فِي صِغَرِهِ، أَنَّ كُلَّمَا قَالَهُ أَوْ رَآهُ فِي مَنَامِهِ يَأْتِي سَرِيعًا، وَكَانَ مِنْ عَادَاتِ قَوْمِهِ أَنَّهُمْ يُسَافِرُونَ فِي كُلَّ سَنَةٍ وَقْتَ طِيبِ الزَّرْعِ إِلَى وَقْتِ الْخَرِيفِ، وَكَانُوا يَمْشُونَ نَحْوَ اندَرْ وَنَحْوَ بَنْجُلْ، وَهُمَا مَدِينَتَانِ لِلنَّصَارَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْبِلَادِ، يَطْلَبُونَ الرِّزْقَ، بَعْضُهُمْ يُتَاجِرُونَ، وَبَعْضُهُمْ يَبِيعُونَ لِلنَّصَارَى، وَبَعْضُهُمْ نُوتِيُّونَ يَصِيدُونَ الْحُوتَ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُونَ جَمَلَهُمْ وَيُكَوِّنُونَ عِيرًا، وَهَذَا كُلُّهُ مِثْــلَ أَهْلِ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللهَ، فَكَانُوا يَقْصُدُونَ الشَّامَ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ. وَيَقْصُدُونَ مِصْرَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَيَطْلُـبُونَ الرِّزْقَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ هَذَا الْبَلَدِ.
وَلَمَّا كَانَ الإِمَامُ الْمُنْتَظَرُ كَبِيرًا، وَبَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، كَانَ يَذْهَبُ مَعَ النَّاسَ وَيُسَافِرُ مَعَهُمْ، وَيَرَوْنَ مِنْهُ عَجَائِبَ مِنْ قُوَّةٍ وَشَجَاعَةٍ تُعْجِبُهُمْ. وَكَانَ أَنْشَطَ مِنْ أَمْثَالِهِ ، وَأَشْجَعَ مِنْهُمْ فِي الْفِتْنَةِ، وَأَعْدَلَهُمْ، وَكَانَ يَطْبَخُ لَهُمْ وَيُعِينُهُمْ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ، وَيَؤُمُّهُمْ فِي الصَّلَوَاتِ، وَكُلُّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ إِنْ فَعَلُوهُ لَا يَرَوْنَ فِيهِ إِلاَّ الْخَيْرَ. وَكَانَ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ وَجَعٌ إِنْ دَعَا لَهُ بَرِئَ فِي الْوَقْتِ حَتَّى عَجِبُوا مِنْ أَمْرِهِ فِي إِجَابَةِ الدُّعَاءِ. وَأَخْبَرَنِي وَزِيرُ الْقَرْيَةِ الَّذِي كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ قَلِيلًا فِي شَبَابِهِمْ، وَهُوَ جَاجْ صَدَّ أَنَّهُ قَالَ سَافَرْنَا مَعَ الْإِمَامِ نَحْوَ انْدَرْ وَلَمَّا بَلَغْنَا كَنْجُولْ وَجَدْنَا فِيهَا شَابَّةً مَبْطُونَةً أَيْ أَصَابَهَا وَجَعُ الْبَطْنِ الشَّدِيدِ حَتَّى اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَهَا مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَبْكِي أُمُّهَا وَقُلْتُ لَهُمْ : " إِنَّ مَعِي صَغِيرًا لِي كَانَ يَدْعُو لَنَا فِي كُلِّ شِدَّةٍ وَقَالُوا لِي:" اُدْعُهُ لَنَا إِنْ دَعَا وَأَجَابَ اللهُ دَعْوَتَهُ فِيهَا نُعْطِهِ مَا يُحِبُّ. وَلَمَّا دَعَوْتُهُ وَجَاءَ إِمَامُ اللهِ الْمُنْـتَـظَرُ، وَلَمَّا وَضَعَ يَدَهُ الْكَرِيمَةَ عَلَى بَطْنِ الْمَرْأَةِ، وَنَفَخَ فِيهِ لَمْ نَشْعُرْ إِلاَّ وَاْلمَرْأَةُ نَاِئمَةٌ فِي السَّاعَةِ. وَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَتْ أُمُّهَا : " مَا تَسْأَلُ وَمَا نُعْطِيكَ؟ قُـلْ مَا شِئْتَ مِنَ الْمَالِ نُعْطِكَهُ". فَقَالَ:"مَا سَأَلْتُ شَيْئًا، إِنِّي فَعَلْتُهُ للهِ!" قَـالَ جَاجْ صَدَّ: وَأَنَا غَضِبْتُ عَلَيْهِ لِمَا لَمْ يَسْأَلْ شَيْئًا .
وَكَانَ مِنْ خِصَالِهِ فِي وَقْتِ شَبَابِهِ أَنَّهُ يُقَـرِّبُ الضَّيْفَ وَيَطْلُبُهُ، فَإِذَا طَبَخَتْ أُمُّهُ الْكَرِيمَةُ طَعَامًا يَطْلُبُ الضَّيْفَ مِيلًا أَوْ مِيلَيْنِ لِيُطْعِمَهُ. وَكَانَ إِذَا ذَهَبَ نَحْوَ الْبُسْتَانِ أَوْ غَيْرِهِ، إِذَا لَقِيَ غَرِيبًا يَقْصُدُ الْقَرْيَةَ يَسْأَلُهُ وَيَقُولُ لَهُ :هَلْ عَرَفْتَ أَحَدًا فِي الْقَرْيَةِ ؟ إِنْ قَالَ لَهُ : إِنِّي غَرِيبٌ مَا عَرَفْتُ أَحَدًا فِي الْقَرْيَةِ، يَدُلُّهُ عَلَى أُمُّهِ وَبَيْتِهَا، أَوْ يُعْطِيهِ سُبْحَتَهُ لِتَعْرِفَهُ أُمُّهُ، فَتُقْرِيَهُ وَتُطْعِمَهُ حَتَّى يَشْبَعَ قَبْلَ مَجِيئِهِ.وَكَانَتْ أُمُّهُ طَبَّاخَةً مُجِيدَةً حَتَّى اشْتَهَرَتْ جِدًّا لِكَثْرَةِ إِطْعَامِهَا، وَلُقِّـبَتْ بِكُمْبَ جَكَتَ لِكَثْرَةِ إِطْعَامِهَا لِلنَّاسِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ سَخِيَّةً وَلِيَّةً جَامِعَةَ خِصَالِ الْخَيْرِ طَاهِرَةً، حَافِظَةً لِلْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَتُعِينُ النِّسَاءَ فِي إِذْنِ الْخَيْرِ، وَلَا تَمْنَعُ الْمَاعُونَ لِلْجِيرَانِ. وَكَانَ اسْمُهَا كُمْبَ انْدُويْ ، هِيَ جَامِعَةُ خِصَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا، وَمَعْنَى كُمْبَ فِي الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ الْمَحْمُودَةُ الْأَخْلَاقِ وَالْمَرْجُوُّ خَيْرُهَا، وَالْمَأْمُونُ شَرُّهَا كَآمِنَةَ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ، وَلَكِنْ كُلُّ ذِي نِعْمَةٍ يَحْسُدُهُ قَوْمُهُ مِنْ أَوَّلِ الزَّمَانِ إِلَى الآنَ.
وَكَانَ إِمَامُ اللهِ بْنِ الْحَسَنِ فِي شَبَابِهِ إِذَا ذَهَبَ مَعَ نُوتِيِّينَ إِلَى الْبَحْرِ يَصْطَادُونَ الْحُوتَ، وَتَمْتَـلِئُ سَفِينَتُهُمْ وَيَقْتَسِمُونَ حِيتَـانَهُمْ ، يُقَسِّمُ هُوَ نَصِيبَهُ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ إِدَامٌ، إِلاَّ أَنْ تَـقُومَ أُمُّهُ لِتَـأْخُذَ مِنْهَا مَا تَأْتَـدِمُ بِهِ عِشَاءُهُمْ ، وَإِذَا لَمْ تَأْتِ أُمُّهُ أَوْ يَأْتِ غَيْرُهَا مِنْ أَهْلِهِ لَا َيبْقَى لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْحُوتِ فِي نَصِيبِهِ.
وَكَانَ الْإِمَامُ الْمُنْتَـظَرُ فِي زَمَنِ شَبَابِهِ وَصِغَرِهِ، إِذَا زَرَعَ زَرْعًا حَتَّى طَابَ، يَقْطَعُـهُ أَوْ يَحْصُدُهُ وَيُعْطِيهِ كُلَّ امْرَأَةٍ تَمُرُّ بِالْبُسْتَانِ أَوْ تَقْـرُبُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ إِنْ غَرَسَ بَقُولًا، إِنْ كَانَ فِيهِ عَرُوقٌ، وَلَوْ قَـلَّ وَصَغُرَ، يَقْلَعُهُ وَيُعْطِيهِ كُلَّ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ رِجَالٍ أَوْ نِسَاءٍ.
وَإِنْ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ، إِذَا جَاءَ مَنْ يَطْلُبُ الْعَوْنَ فِي أَيِّ أَمْرٍ، كَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ يَقُومُ إِلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ دَأْبُهُ فِي صِغَرِهِ وَشَبَابِهِ وَكُهُولَتِهِ. وَكُلُّ مَا كَانَ أَوْصَافَ أَهْلِ اللهِ الْكِبَارِ مِنَ الْعَوْنِ وَالْعَفْوِ وَالسَّخَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْيَقِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَحْمُودَةِ اْلخِصَالِ، مَبْدَأُهُ فِي صِغَرِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ مِنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ.
وَلَمَّا قَرُبَ مَجِيءَ الْأَمْرِ الْأَعْظَمِ، جَعَلَ اللهُ لَهُ عَلَامَةً، يَعْرِفُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ هَذَا سَبَبُ أَمْرٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ ذَلِكَ قَـلَّ مَا يُوجَدُ فِي زَمَنٍ. وَتِلْكَ الْعَلَامَةَ أَنْ أَطْلَعَ اللهُ نَجْمًا لَهُ ذَنَبٌ طَوِيلٌ فِي الْمَشْرِقِ، رَآهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَمْ يَشُّكَ أَحَدٌ فِي رُؤْيَتِهِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلاَّ الْأَعْمَى. وَهَذَا النَّجْمُ كَانَ عَلَامَةً لِظُهُورِ الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، وَهَذَا النَّجْمُ طَلَعَ فِي آخِرِ المِائَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ الْأَلْفِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ. وَمَكَثَ النَّجْمُ فِي السَّمَاءِ يَرَاهُ الدَّانِي وَالقَاصِي مُدَّةَ سَنَةٍ أَوْ قُرْبِهَا حَتَّى غَرُبَ فِي الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى.
وَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ الْحَسَنِ الإِمَامُ الْمُنْتَظَرُ عَلِمَ قُـرْبَ ظُهُورِ أَمْرِ اللهِ عَلَيْهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ ، تَحَدَّثَ مَعَ حَبِيبِهِ وَخَلِيلِهِ وَأَمِينِهِ وَابْنِ خَالِهِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ أُمِّهِ الْكَرِيمَةِ، وَذَاكَ هُوَ دَاوُدَ انْدُويْ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَرَكَ رُكْبَتَيْهِ وَقَـبَّـلَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لِدَاوُدَ انْدُويْ: " إِنْ شَاءَ اللهُ فِي هَذِهِ السَّنّةِ يَأْتِي أَمْرٌ عَظِيمٌ " وَبَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ قَلِيلَةٍ اصْطَحَبَهُ إِلَى قمْصَانْ وَهِيَ بَسَاتِينُ الرَّوْضَةِ، وَقَالَ لَه ُ: " يَا ابْنَ خَالِي إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ مَوْتَ امْرَأَةٍ وَلِيَّةٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ وَحُرْتُ فِي أَمْرِهَا " .
وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَاتَتْ أُمُّهُ الْكَرِيمَةُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْمُوَافِقَ يَوْمَ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبَ الْمُعَظَّمِ. وَلَمَّا دُفِنَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَمْسَكَ السَّيِّدُ الْكَرِيمُ إِمَامُ اللهِ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَعَ مُلَازَمَةِ الصُّمْتِ، حَتَّى إِنَّ إِخْوَانَهُ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: "مِثْـلُكَ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّـقْوَى تَتْرُكُ الطَّعَامَ لِمَوْتِ أُمِّكَ " وَلَامُوهُ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ، وَلَمْ يُجِبْهُمْ مُدَّةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ. وَظَهَرَ هِلَالُ شَعْبَانَ لَيْلَةَ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَلَمَّا أَصْبَحَ اللهُ صَبَاحَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ بِتَهْـلِيلٍ وَتَكْبِيرٍ وَتَسْبِيحٍ وَيَقُولُ: " اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ " وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ مُدَّةً طَوِيلَةً ، وَلَمْ يَتَحَدَّثْ مَعَ أَحَدٍ فِي تِلْكَ الْمُّدَّةِ ، وَيَقُولُ النَّاسُ وَالْإِخْوَانُ : الْإِمَامُ أَخَذَهُ جُنُونٌ، وَيَقُولُونَ كَيْتَ وَكَيْتَ فِي أَمْرِهِ ، وَهُـوَ يَذْكُرُ رَبَّهُ ، وَلَمْ يُبَالِ بِشَيْءٍ حَتَّى ذَهَبَ خَالُهُ إِلَى النَّادِي أَيْ مَجْلِسِ الْقَوْمِ فَقَالُوا لَهُ " قُمْ فِي ابْنِكَ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ جُنَّ" وَلَمَّا رَجَعَ خَالُهُ إِلَى الدَّارِ دَعَاهُ وَقَالَ لَهُ : يَا خَالِي إِنَّ النَّاسَ قَالُوا لَكَ : "إِنَّ ابْنَكَ جُنَّ" قَالَ : نَعَمْ. قَالَ :" يَا خَالِي إِنْ أَرَدْتَ مَنْ يُخْبِرُكَ بِأَمْرِي فَـقُمْ وَاطْلُبْ زَادًا ، وَتَوَجَّهْ إِلَى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ شَرَّفَهَا اللهُ، إِذَا ذَهَبْتَ إِلَى مَكَّةَ المُشَرَّفَةِ فَـقُـلْ لِأَهْلِهَا : إِنَّ لِي ابْنًا فِي الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى يُسَمَّى الإِمَامُ أَصَابَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جُنُونٌ ، وَهُوَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ بِقَلِيلٍ، وَأَنَا حُرْتُ فِي أَمْرِهِ إِذَا لَمْ تَـفْعَلْ ذَلِكَ فَلَا تَجِدُ مَنْ يُعَلِّمُكَ فِي أَمْرِي شَيْئًا" ، قَـــالَ لَــهُ خَـالُــهُ :" ذَلِكَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ" ثُـمَّ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ "إِنْ لَمْ تَـقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَاجْلِسْ، وَلَا تَسْتَمِعْ قَوْلَ النَّاسِ الَّذِينَ جَهِلُوا أَمْرِي ، وَلَا يَعْرِفُ أَمْرِي غَيْرُ رَبِّي لِأَنَّ رَبِّي هُـوَ الَّذِي جَعَلَ بِي مَا كَانَ فِيَّ وَلَا يَشْفِينِي أَحَدٌ غَيْرُهُ ، تَوَكَلْتُ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا "
وَبَعْدَ هَذَا دَعَا عَمَّـتَـهُ الَّتِي تُسَمَّى ءَادَمَ جَوْ وَقَالَ لَهَا : " يَا عَمَّتِي أَلْبِسِينِي ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ إِنَّ اللهَ أَعْطَاكِ وَلَدًا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا " ثُمَّ دَعَا أُخْتَهُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ وَقَالَ لَهَا:" يَا جَايْ جَوْ أَلْبِسِينِي ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ إِنَّ اللهَ أَعْطَاكِ أَخًا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا " ثُــمَّ دَعَا زَوْجَتَيْهِ الطَّاهِرَتَيْنِ، وَقَالَ: " يَا فَاطِمَةُ الطَّاهِرَةُ وَيَا فَرْمَ الزَّكِيَّةُ اصْبِرَا إِنَّ اللهَ أَعْطَاكُمَا زَوْجًا لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا مِنَ النِّسَاءِ، أُعَلِمُكُمَا أَنَّ الإِمَامَ الَّذِي كَانَ مَعَكُمَا وَهَذَا الإِمَامُ لَيْسَا بِوَاحِدٍ لِأَنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ رَفَعَنِي فَوْقَ الْخَلِيقَةِ بِمَشِيئَتِهِ وَجَعَلَنِي دَاعِيًا إِلَيْهِ".
وَبَعْدَ ذَلِكَ قَامَ يَدْعُو الثَّــقَـلَيْنِ بَيْنَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَيَقُولُ: أَجِـيــــبُـــــوا دَاعِيَ اللهِ جَهْـرًا وَقَالَ: "مَنْ قَالَ قَوْلِي هَذَا غَيْرِي، لَا يَقُولُهُ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ" ثُــمَّ جَعَلَ يُكْثِرُ ذِكْرَ رَبِّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَعَلَانِيَّةً، وَيَجْتَهِدُ فِي الْفَرَائِضِ وَالسُّنَن،ِ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ مِـنْ عِيَالِهِ وَأَصْحَابِهِ، بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا فِي دَارِهِ يَفْعَلُ شَهَوَاتِهِ.
وَلَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهُ جَمَعَ اللهُ مَعَهُ الآيَاتِ الْبَاهِرَةَ، وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةَ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ، وَلَمَّا ظَهَـرَ كَانَ طِيبُهُ وَطِيبُ دَارِهِ أَطْيَبَ مِنَ الْمِسْكِ، كَذَلِكَ طِيبُ مَسْجِدِهِ وَطِيبُ سُبْحَتِهِ وَسُبْحَاتِ أَصْحَابِهِ، وَسَرَى ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الذِّكْرِ وَالطَّهَارَةِ.
وَلَمَّا فَشَا أَمْرُهُ فِي النَّاسِ جَاءُوهُ وَآمَنُوا بِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الشَّكِّ كَمَا كَانَ أَهْلُ اللهِ فِي الْأَجْيَالِ الْمَاضِيَّةِ.
وَكَانَ لَهُ عَجَائِبُ لَا تُحْصَرُ وَلَا تُعَــدُّ.وَكَانَ مِنْ عَجَائِبِهِ إِذَا نَفَخَ أَحَدًا سَقَطَ كَأَنَّهُ مَيِّتٌ، لَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ وَلَوْ طَالَ الزَّمَنُ حَتَّى يُقِيمَهُ، وَكَانَ لَهُ ثَوْبٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَلَوْ كَانَ شَدِيدًا عَلُوجًا، وَشَكَّ فِي ذَلِكَ أَحَدُ تَلَامِيذِهِ الَّذِي كَانَ ذَا قُـوَّةٍ فِي الْحَمْلِ ، وَلَمَّا جَعَلَ الثَّوْبَ عَلَى رَأْسِهِ تَصَبَّبَ عَرَقًا، وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ، وَلَمَّا رَفَعَ الثَّوْبَ عَنْ رَأْسِهِ سَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَكَانَ مِنْ عَجَائِبِهِ لَمَّا سَالَ مَوْجُ الْيَمِّ أَيْ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ الْمَالِحِ فِي دَارِهِ يَوْمًا، شَكَا إِلَيْهِ أَصْحَابُ الْبُيُوتِ مِنْ إِتْيَانِ الْمَوْجِ فِي بُيُوتِهِمْ فَقَامَ مَعَ النَّاسِ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ وَخَطَّ خَطًّا بِرِجْلِهِ وَقَالَ :"لَا يُجَاِوزُ هَذَا الْخَطَّ لِأَنَّ إِتْيَانَهُ فِي الدَّارِ كَانَ لِأَخْذِ النَّجَاسَةِ الَّتِي فِيهَا لَكِنْ لَا يَعُودُ إِنْ شَاءَ اللهُ، ثُـمَّ قَالَ : "إِنَّ الْبَحْرَ يَتْبَعُ أَمْرِي لَا يُحِبُّ مَا يَسُوءُنِي كَأَنَّهُ مِثْلُكُمْ، وَأَنْـتُمْ لَا تَعْرِفُونَنِي وَهُوَ عَرَفَنِي وَعَرَفَ قَدْرِي عِنْدَ رَبِّي، لَا يُجَاِوزُ أَمْرِي" وَلَمْ يَرْجِعُ الْمَوْجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ نُـقِـلَتِ الدَّارُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الطَّاعُونِ الَّذِي نَزَلَ فِي زَمَنِ ابْنِهِ رُوحِ اللهِ عِيسَى.
وَمِنْ عَجَائِبِهِ، أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ تِلْمِيذَهُ الْأَوَّلَ كَانَ ذَا قُوَّةٍ، طَوِيلَ الْقَامَةِ يُقًالُ لَهُ مُمَرْ بِنْتَ، أَرْسَلَهُ السَّيِّدُ إِمَامُ اللهِ يَومًا إِلَى دَكَارْ وَقْتَ اللَّيْلِ، وَقَامَ وَقْتَ الْفَجْرِ وَأَخَذَ ثَوْبَ السَّيِّدِ وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ لَبِسَ الثَّوْبَ لِيُصَلِيَ الصُّبْحَ، وَلَمَّا لَبِسَهُ بَرَكَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُومَ وَمَكَثَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَوَجَدَهُ النَّاسُ هُنَاكَ، وَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ إِمَامَ اللهِ، َفجَاءَهُ وَأَخَذَ الثَّوْبَ عَنْهُ.
وَكَانَ مِنْ عَجَائِبِهِ بِقُـدْرَةِ اللهِ قَامَ يَوْمًا مِنْ دَارِهِ عِنْدَ يُوفْ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ كَمْبَرِينْ دَارِ هِجْرَتِهِ ، وَاصْطَحَبَ مَعَهُ بَعْضَ أَكَابِرِ أَصْحَابِهِ ، وَفِيهِمْ صِهْــرُهُ وَحَبِيبُهُ عَبْدُ اللهِ جَلُ وَصِهُــرُهُ وَحَبِيبُهُ وَصَاحِبُ سِرِّهِ عَبْدُ اللهِ كَيْ ، وَمَصَمْبَ اللهِ جِييْ ، وَدِمْبَ بَايْ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَخْيَارِ، وَكَانَ السَّيِّدُ فِيهِمْ كَالشَّمْسِ بَيْنَ الْأَقْمَارِ يَمْشُونَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَى بَلَغُوا مَرْسَى كَمْبَرِينْ، وَكَانَ مِنْ خِصَالِهِ يَمْزَحُ مَعَ أَصْحَابِهِ كُـلُّ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ هَرَبَ إِلَى جِهَةٍ، وَافْتَرَقُوا فِي الْجِهَاتِ ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّــرَابِ وَذَرَاهَا فِي الْهَوَاءِ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَقَطَ فِي مَوْضِعِهِ كَأَنَّهُ مَيِّتٌ وَلَمْ يَشْعَرْ بِشَيْءٍ ، وَجَاءَ فَأَخَذَ كُلَّ وَاحِدٍ مُنْهُمْ بِرِجْلِهِ وَجَمَعَهُمْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ كَأَنَّهُمْ مَوْتَى، ثُـمَّ نَفَخَهُمْ بِثَوْبِهِ فَقَامُوا كُلُّهُمْ وَقَالَ : "هَلْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَهْرَبُوا مِنِّي؟ " وَقَالُوا: " لَا، واللهِ" وَعَجِبُوا مِنْ أَمْرِ اللهِ وَازْدَادُوا إِيمَانًا وَيَقِينًا.
وَمِنْ عَجَائِبِهِ ، بِإِذْنِ اللهِ ، صَلَّيْنَا مَعَهُ صَلاةَ الصُّـبْحِ عِنْدَ كَمْبَرِينْ ، دَارِ هَجْرَتِهِ وَلَامَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ فِيمَا لَمْ يُحْسِنْ عِنْدَهُ مِنَ الْكَلاَمِ وَغَضِبَ مِنْ لَوْمِهِ وَهُوَ ءَالِ يَاقَّ ، وَأَخْرَجَ صُنْدُوقَهُ وَمَتَاعَهُ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى إِخْوَانِهِ الْمُجَاحِدِينَ .وَقَالَ السَّـيِّـدُ الأَعْظَمُ إِمَامُ اللهِ :" إِنْ قَامَ مِنْ مَقَامِهِ هَذَا ، فَاعْلَمُوا أَنِّي لَسْتُ بِإِمَامِ اللهِ" وَمَكَثَ الرَّجُلُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَائِمًا مِنْ وَقْتِ الصُّبْحِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ صَلَّيْنَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ حَتَّى نَامَ النَّاسُ، وَجَاءَ السَّـيِّـدُ وَأَضْجَعَهُ بَعْدَ هُجُوعِ النَّاسِ وَلَمَّا أَصْبَحَ اللهُ صَبَاحَهُ جَاءَهُ وَتَابَ وَنَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ. وَأَيْضًا كَانَ السَّيِّدُ إِمَامُ اللهِ يُمَازِحُ تِلْمِيذَهُ بَارَ صَلَّ عِنْدَ كَمْبِرِينْ وَنَفَخَهُ بِفَمِهِ الْكَرِيمِ وَقْتَ الضُّحَى وَسَقَطَ كَأَنَّهُ مَيِّتٌ مُضْطَجِعٌ ، وَلَمْ يَتَحَرَّكْ إِلَى صُبْحِ الْيَوْمِ الثَّانِي ثُـمَّ جَاءَهُ وَأَقَامَهُ. مِثْلُ هَذِهِ الْأَفْعَال لَا يُرَى أَحَدٌ يَفْعَلُهُ وَلا يُسْمَعُ بَعْدَ مَا مَضَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَمِنْ عَجَائِبِهِ بِقُدْرَةِ اللهِ لَمَّا ظَهَرَ الإِمَامُ الْمَهْدِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَمِعَ النَّاسُ دَعْوَتَهُ وَمُعْجِزَاتِهِ، أَرْسَلَ أَمِيرُ كَجُورْ الَّذِي كُـنِّيَ بِدَمِيلْ ، وَذِلكَ الاسْمُ يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ بَلَدَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الزَّمَانِ إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ ، وَهُوَ اسْمُهُ دَمِيلْ صَمْبَ لَوْبِ فَالْ ، وَهُوَ قَالَ لِرَسُولِهِ :" إِذَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ قُـلْ لَهُ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ دَمِيلْ صَمْبَ لَوْبِ، وَيَسْتَخْبِرُكَ رُؤْيَاهُ الَّتِي رَآهَا فِي مَنَامِهِ"وَلَمْ يُخْبِرْ رَسُولَهُ رُؤْيَاهُ فَلَمَّا سَمِعَ السَّيِّدُ إِمَامُ اللهِ كَلَامَهُ قَالَ لَهُ:" إِذَا رَجَعْتَ قُلْ لَهُ إِنَّهُ تَوَضَّأَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي لَيْلَةِ الْعَاشُورَاءِ ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ اسْتِخَارَةً ، وَصَلَّى رَكَعَتَيْنِ وَقَرَأَ فِي كُلِّ رَكَعَةٍ سُورَةَ يس ثُـمَّ اضْطَجَعَ وَنَامَ وَرَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ أُعْطِيَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْقِيَةٍ مَمْلُوءَةٍ مِنَ الدِّمَاءِ وَشَرِبَ هُوَ وَاحِدًا وَقَسَّمَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ وَاحِدًا" وَسَكَتَ السَّيِّدُ عَنِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يُخْبِرْهُ مِنْهُ بِشَيْءٍ. وَلَمَّا سَمِعَ دَمِيلْ مَا قَالَهُ مِنْ رُؤْيَاهُ وَلَمْ يُخْبِرْ دَمِيلْ بِهَا أَحَدًا تَعَجَّبَ وَآمَنَ بِهِ ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بَرَاوَةً يُخْبِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيهِ حَتَّى يَرَاهُ وَأَخْبَرَهُ السَّيِّدُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، لَا يَتْرُكُهُ دِنْبَ وَارْ ". وَلَمَّا أَخْبَرَ دَمِيلْ ذَلِكَ لِوَزِيرِهِ دِنْبَ وَارْ قَالَ لَهُ :" إِذَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ أَخْلَفْتُ مَلِكًا يَمْلِكُ الْبَلَدَ بَعْدَكَ وَلا يَرْجِعُ إِلَيْكَ مُلْكُكَ "وَاخْتَارَ الدُّنْيَا عَنِ الآخِرَةِ وَبَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ وَزِيرُهُ دِنْبَ وَارْ جَمَلَ السَّيِّدِ مِنْ تَلَامِيذِهِ قَهْرًا وَغَصْبًا وَتَعَدِّيًا . وَلَمَّا أَرَادَ دَمِيلْ أَنْ يُقَاتِلَ أَمِيرَ جُلُفْ الَّذِي يُسَمَّى اَلْبُرِ جَايْ قَالَ السَّيِّدُ :"مَنْ يَذْهَبْ مَعَ جَمَلِي فِي جَيْشِهِ، وَيُرِيدُ الْقِتَالَ لَا يُفْلِحُ فِي طَرِيقِهِ "فَلَمَّا ذَهَبُوا ظَنُّوا غَلَبَةً وَلكِنْ عَكَّسَ اللهُ ظَنَّهُمْ، وَلَمَّا دَخَلُوا الْبَلَدَ، وَفِيهِمْ جَمَلُهُ، لَمْ يَبِيتُوا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ نَزَلُوا وَقْتَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَجَاءَهُمْ أَمِيرُ الْبَلَدِ وَهَرَبُوا وَقْتَ الْعَصْرِ. وَسبَبُ ذَلِكَ كُلِّهِ جَمَلُهُ الَّذِي فِي جُيُوشِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ. وَلَمَّا رَجَعَ دَمِيلْ إِلَى بَلَدِهِ قَتَلَهُ النَّصَارَى، وَذَلِكَ
وَلَمَّا رَجَعَ دَمِيلْ إِلَى بَلَدِهِ قَتَلَهُ النَّصَارَى، وَذَلِكَ تَفْسِيرُ أَحَدِ الْأَسْقِيَةِ الَّتِي لَمْ يُخْبِرْهُ عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَبعْدَ مَا هَرَبُوا وَرَجَعُوا أَرْسَلَ السَّيِّدُ تِلْمِيذَيْهِ مُمَرْ جَاجْ آمِنَةَ وَجَكَ سِكْ إِلَى أَلْبُرِ جَايْ وَدَفَعَ لِلسَّيِّدِ جَمَلًا خَيْرًا مِنْ جَمَلِهِ وَأَفْلَحَ لِأَجْلِ رَسُولِهِ إِلَيْهِ.
وَمِنْ عَجَائِبِهِ أَيْ إِمَامِ اللهِ صَاحِبِ الزَّمَانِ إِنْ شَاءَ أَوْقَفُ شَخْصًا رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَهُوَ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الْقِرَاءَةِ فَوَقَفَ يُخْبِرُنَا بِخَبَرِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ مِمَّا كَانَ مَكْتُوبًا فِي الْكُتُبِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَخْبَارِ وَمَتَى شَاءَهُ قَالَ لَهُ : اُسْكُتْ فَيَسْكُتُ وَلَا يَعْرِفُ شَيْئًا .
وَمِنْ عَجَائِبِهِ بِقُدْرَةِ اللهِ لَمَّا فَشَتْ دَعْوَتُهُ وَأَجَابَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ حَسَدَهُ قَوْمُهُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ ، وَوَشُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّصَارَى ، وَقَالُوا لِلنَّصَارَى إِنَّ الإِمَامَ كَثُرَ أَتْبَاعُهُ ، وَقَالَ : إِنَّهُ هُوَ الْمَهْدِيُّ الَّذِي يُزِيلُ مُلْكَكُمْ ، وَلَهُ سُيُوفٌ وَمَدَافِعُ وَرِمَاحٌ يُدَّخِرُهَا فِي دَارِهِ وَقَالَ أَصْحَابُهُ كَذَا وَكَذَا فِيمَا يُحْزِنُ الْمُلُوكَ حَتَّى فَزِعَ النَّصَارَى مِنْهُ ، وَاحْتَالُوا فِي إِزَالَةِ دَعْوَتِهِ وَإِفْسَادِ أَمْرِهِ وَتَفْرِيقِ أَهْلِ دِينِهِ ، وَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِهِ بَيْنَ أَخْذِهِ وَقَتْلِهِ وَإِتْلَافِهِ كَمَا فَعَلُوا بِبَعْضِ أَهْلِ اللهِ .
وَلَمَّا اشْتَهَرَ أَمْرُهُ عِنْدَ بَعْضِ النَّصَارَى تَحَدَّثَ فِيهِ نَصْرَانِيَّانِ مَعَ أَحَدِ التُّجَارِ مِنْ إِخْوَانِهِ ، وَاسْمُهُ دِيكِي جَاجْ وَبَعْدَ ذَلِكَ ، لَقِيَ التَّاجِرُ تِلْمِيذَيْنِ مِنْ أَخْيَارِ أَصْحَابِهِ ، وَهُمَا جَكَ سِيكْ وَمُمَرْ جَاجْ آمِنَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، وَقَالَ التَّاجِرُ لَهُمَا:" إِنِّي جَلَسْتُ مَعَ نَصْرَانِيَّيْنِ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، وَقَالَا لِي: إِنَّ النَّصَارَى سَيَذْهَبُونَ إِلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ سَرِيعًا لِيَأْخُذُوهُ فَلْتَذْهَبَا إِلَيْهِ لِتُخْبِرَاهُ بِذَلِكَ " وَارْتَحَلَا عِنْدَ تَنْكِيجْ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَجَاءَا فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ ، وَوَجَدَا النَّاسَ نِيَامًا ، وَجَاءَا إِلَى الْبَابَ الَّذِي كَانَ وَرَاءَ دَارِهِ فَوَجَدَاهُ ( أَيْ إِمَامَ اللهِ ) وَاقِفًا يَنْتَظِرُهُمَا وَقَالَ لَهُمَا :" لَعَلَّكُمَا جِئْتُمَا لِأَجْلِ سِرِّ الْأَرْبَعَةِ " قَالَا لَهُ : "هُمْ ثَلَاثَةٌ " ، ثُــمَّ قَالَ لَهُمَا : " هُمْ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ اللهَ رَابِعُهُمْ" قَالَا لَهُ : "صَدَّقْتَ " وَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :] مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُـمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ .
وَلَمَّا قَرُبَتْ أَيَّامُ إِتْيَانِهِمْ إِلَيْهِ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ جَاسُوسَيْنِ وَأَتَيَا إِلَيْهِ وَقَالَا لَهُ : " نَحْنُ كُنَّا فِي خِدْمَةِ النَّصَارَى مُدَّةً طَوِيلَةً وَنَحْنُ أَرَدْنَا أَنْ نَتُوبَ إِلَى اللهِ وَنَسْتَغْفِرَ رَبَّنَا مَا دُمْنَا فِي الْحَيَاةِ" قَالَ لَهُمَا: "مَا قُلْتُمَا حَسَنٌ" وَأَمَرَهُمَا بِالاِغْتِسالِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ، ثُـمَّ تَرَكَهُمَا يَدُورَانِ فِي الدَّارِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا جَاءَا بِهِ. وَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ الَّذِي عَلِمَا أَنَّ قَائِدًا مِنْ قُوَّاِد النَّصَارَى يَأْتِي فِيهِ قَامَا وَقْتَ الصُّبْحِ وَقَالَا لِلسَّيِّدِ الْأَعْظَمِ:"أَرَدْنَا أَنْ نَرْجِعَ الْيَوْمَ إِلَى دَكَارْ لِنَأْخُذَ مَتَاعَنَا وَنَرْجِعَ إِلَيْكَ " قَالَ لَهَا : "أَلَّا تَنْتَظِرَانِ الَّذَيْنِ كُنْتُمَا تَنْتَظِرَانِهِمْ؟" فَسَكَــتَا ثُـمَّ ذَهَبَا".
وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ جَاءَ قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ النَّصَارَى مَعَ أَصْحَابِهِ الْكُـفَّارِ ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رُكَّابًا ، وَقَادَهُمْ أَحَدُ الْفُجَّارِ مِنْ فُسَّاقِ قَوْمِهِ ، وَهُوَ مَصَمْبَ كُكِّ وَتَوَجَّهُوا نَحْوَ جَمَّلَايْ مَوْضِعِ مُصَّلَاهُ ، وَيَرْجُونَ أَنْ يَجِدُوهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ خَالِيًا مِنَ النَّاسِ وَلِمَا لَمْ يَجِدُوهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، تَوَجَّهُوا نَحْوَ دَارِهِ ، وَوَجَدُوا أَصْحَابَهُ يَذْكُرُونَ اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَقْتَ الظُّهْرِ فِي بَابِ مَسْجِدِهِ ، وَهُوَ فِي الدَّارِ يَأْمُرُ مَنْ بَقِيَ لِيَذْهَبُوا إِلَى الْجَمَاعَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِإِتْيَانِ الْأَعْدَاءِ . وَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا : " أَيْنَ الْإِمَامُ ؟" وَقَالُوا لَهُمْ :"هُوَ فِي الدَّارِ" وَكَانَ إِمَامُ اللهِ قَبْلَ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُمْ : " مَنْ جَاءَنِي وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَنِي أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَنِي بَيْنَكُمْ، فَلَا تَقُومُوا لَهُ وَاتْرُكُونِي مَعَ رَبِّي، فَأَنَا اكْتَـفَيْتُ بِرَبِّي وَلَا أَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ " ، ثُـمَّ قَالَ : " تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا " وَلَمَّا جَاءَهُ قَائِدُ النَّصَارَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْكُفَّارِ فِي دَارِهِ، وَأَهْلُ يُوفْ كُلُّهُمْ خَرَجُوا يَنْظُرُونَ كَيْفَ حَالُهُ وَحَالُ الْكُـفَّارِ، وَهُمْ مَعَ سُيُوفِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ، وَهُـوَ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ إِلاَّ التَّوَكُّلَ بِرَبِّهِ فَاكْتَفَى بِهِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: " لَا يَرْفَعْ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَدًا وَلَا عُودًا ، فَاذْكُرُوا اللهَ فَقَطْ لَا غَيْرَ ذَلِكَ. " فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِذِكْرِ اللهِ، وَقَطَعَ قَائِدُ الْكُفَّارِ سِتْرَ دَارِهِ وَدَخَلَ مَعَ سَيْفِهِ وَمِدْفَعِهِ وَجَعَلَ النَّارَ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِ لِيَحْرِقَهُ ، فَوَضَعَ السَّيِّدُ يَدَهُ عَلَيْهِ فَانْطَفَأَ، وَقَالَ : لَا تَلْتَهِبْ ، وَقَالَ الْكُفَّارُ : تَلْتَهِبُ ؟ وَقَالَ السَّيِّدُ : لَا تَتَوَقَّـدْ، فَأَوْقَدَهُ ثَانِيًّا ، وَجَعَلَ فِيهِ يَدَهُ فَانْطَفَأَ وَأَخْرَجَ الْقَائِدُ مُسَدَّسَهُ الَّذِي لَا يَنْبَأُ، وَكَشَفَ السَّيِّدُ ثُـقُبَ أُذُنِهِ وَقَالَ لِلْكَافِرِ:" اِجْعَلْ هُنَا وَادْفَعْ " وَلَمَّا دَفَعَ فِي ثُـقُبِ أُذُنِهِ وَدَفَعَ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ وَلَمْ يُنَفِّذْ، كَشَفَ خَاصِرَتَهُ وَقَالَ :" اجْعَلْ هُنَا " وَجَعَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَدَفَعَ فَلَمْ يُنَفِّذْ مُسَدَّسُهُ، وَحَارُوا وَأَخَذَ سِلْسِلَتَهُ الَّتِي كَانُوا يَجْعَلُونَهَا فِي يَدِ كُلِّ مَنْ أَسَرُوهُ وَيُرِيدُونَ بِهِ الْقَـتْـلَ، وَمَدَّ السَّيِّدُ يَدَهُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ فِيهَا السِّلْسِلَةَ، وَلَمَّا تَمَّ فِعْلُهُ سَقَطَتْ عَلَى التُّرَابِ وَجَعَلَهَا فِي يَدِهِ مَرَّةً ثَانِيَّةً وَسَقَطَتْ ، ثُـمَّ صَالَهُ قَائِدُ الْكُفَّارِ بِقُوَّةٍ فَرَفَعَهُ السَّيِّدُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَضَرَبَهُ فِي الْأَرْضِ فَبَكَى الْكَافِرُ وَقَامَ وَهَرَبَ نَحْوَ فَرَسِهِ وَرَكِبَ جَوَادَهُ رَاجِعًا نَحْوَ دَكَارْ وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ مَحْزُونِينَ أَذِّلَاءَ.
وَلَمَّا رَجَعَ الْقَائِدُ قَالَ لِمَنْ أَرْسَلَهُ: " إِنَّ الْإِمَامَ الَّذِي أَرْسَلْتُمُونِي إِلَيْهِ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِثْلَهُ، وَكُلُّمَا قِيلَ فِيهِ حَقٌّ " فَحَزِنَ جَمِيعُ النَّصَارَى لِذَلِكَ الْيَوْمِ لِمَا سَمِعُوا مِنْ أَمْرِهِ، وَقَالَ مَلِكُهُمْ: " أَذْهَبُ إِلَيْهِ مَعَ جَيْشِي " وَدَعَا شَيْخَ دَكَارْ الَّذِي كَانَ وَزِيرَهُمْ فِي الْبَلَدِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَانَ عَمًّا لَهُ مِنْ جِهَةِ أُمِّ أَبِيهِ الْحَسَنِ جَوْ ، وَقَالَ عَمُّهُ لِمَلِكِ النَّصَارَى: " لَا تَذْهَبْ إِلَيْهِ بِجَيْشِكَ لِأَنَّهُ ابْنِي، أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَا لِيَأْتِي مَعِي إِلَيْكَ، فَمَا قَالَهُ النَّاسُ لَيْسَ بِحَقٍّ " . وَأَخَذَ عَمُّهُ يَوْمًا لِيَأْتِيَ إِلَيْهِ مَعَ رُؤَسَاءِ الْبَلَدِ، وَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ وَاحْتَلَقُوا بَيْنَ بَابِ دَارِهِ وَمَسْجِدِهِ، وَجَاَءهُمْ وَبَلَّغَهُمْ أَتَمَّ السَّلَامِ وَرَحَّبَ بِهِمْ، وَصَافَحَهُمْ مَعَ تَبَسُّمٍ وَبَشَاشَةِ وَجْهٍ، وَأَطْعَمَهُمْ أَطْيَبَ الطَّعَامِ بَيْنَ الْأُرْزِ وَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ حَتَّى شَبِعُوا، وَلَمَّا تَمَّتْ حَاجَتُهُمْ فِي ذَلِكَ دَعَاهُ عَمُّهُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَلَدِ وَإِخْوَانِهِ، وَقَالُوا لَهُ: " الْيَوْمَ نُحِبُّ أَنْ تَأْمُرَ أَصْحَابَكَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَتَذْهَبَ مَعَنَا إِلَى مَلِكِ النَّصَارَى لِكَيْ نُصْلِحَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لِأَنَـّكَ مِنْ أَبْنَاءِ الْبَلَدِ، لَا يَصْلُحُ أَنْ تُـفْسِدَ الْبَلَدَ لِأَنَّ النَّصَارَى إِنْ جَاءُوا إِلَيْكَ يُفْسِدُونَ الْقَرْيَةَ، وَأَنْتَ ذُو إِخْوَانٍ وَعِيَالٍ" ثُــمَّ قَالَ السَّيِّدُ لَهُمْ :"يَا عَمِّي إِنِّي قُلْتُ لَكَ مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ إِنَّ مَلِكَ النَّصَارَى يَفْعَلُ لَكَ لِوَاءً كَبِيرًا سَأُقِيلُ فِيهِ مَعَكَ ، وَهَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي عَنَيْتُهُ ، وَقَدْ وَجَدَ أَنَّهُ جَاءَ بِلِوَاءٍ مِثْلِ الْبَيْتِ وَنَصَبَهُ لِعَمِّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، ثُـمَّ قَالَ لَهُمْ :" أَنْتُمْ تُحِبُّونَ أَنْ آمُرَ نُسُورَ اللهِ الَّذِينَ يَعْفُونَ نِعْمَةَ اللهِ وَيُجِيبُونَ دَعْوَتَهُ (عَنَى بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ فِيمَا أَمَرَهُ اللهُ وَتَبِعُوهُ فِيمَا أَمَرَ وَمَا نَهَى)، تُحِبُّونَ أَنْ أُرْسِلَ تَلَامِيذِي هَؤُلَاءِ وَأَبْقَى وَحْدِي أَذْهَبُ مَعَكُمْ إِلَى الْبَحْرِ لِنَصْطَادَ الْحُوتَ كَمَا كُنَّا أَوَّلًا، ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَبَدًا.
جَعَلَنِي اللهُ فَوْقَكُمْ وَفَوْقَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ، وَأَنَا أَطْوَلُكُمْ قَامَةً وَأَطْوَلُكُمْ بَاعًا ، وَالإِمَامُ إِمَامُ يُوفْ لَا أَقُومُ هُنَا، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيَّ بِشَيْءٍ، إِنَّ اللهَ نَصَبَنِي هُنَا لِأَدْعُو بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَلَا يُزِيلُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ" وَأَخَذَ بِيَدِ ابْنِهِ وَوَزِيرِهِ وَخَلِيفَتِهِ رُوحِ اللهِ سَيِّدِنَا عِيسَى وَقَالَ: " أَنَا عَلِمْتُ أَنِّي أَمُوتُ إِنْ جَاءَ أَجَلِي وَلَكِنْ إِنْ مِتُّ وَلَمْ يَتِمَّ مَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي سَيُتِمُّهُ هَذَا الْغُلَامُ " وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَّةٍ أَوْ تِسْعَةٍ . ثُمَّ قَالَ لِعَمِّهِ وَإِخْوَانِهِ : " اِذْهَبُوا إِنْ شَاءَ اللهُ سَأَفْعَلُ مَا أَمَرْتُمُونِي بِهِ " وَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : " كُلُّ نَبِيٍّ لَهُ هِجْرَةٌ فَاذْهَبُوا" وَأَمَرَ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ أَنْ يَذْهَبْنَ إِلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَلَمَّا صَلَّى الْمَغْرِبَ وَعَظَهُمْ وَوَعَدَهُمْ ثَوَابَ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ:" ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ، ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ "، وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمَّا تَمَّتْ ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ جَاءَهُ النَّصَارَى فَأَمَرَهُمْ بِالْهِجْرَةِ وَلَمَّا صَلَّى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَغْرِبَ، وَانْتَشَرَ النَّاسُ ذَهَبَ هُوَ وَلَمْ يَشْعُرِ النَّاسُ بِذِهَابِهِ، وَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ ذَهَبَ مَعَ قَلِيلٍ مِنْ أَقَارِبِهِ تَوَجَّهَ أَصْحَابُهُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يَرْجُونَ وُجُودَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . قَالَ السَّيِّدُ الْأَعْظَمُ: لَمَّا بَلَغْتُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَوْضِعَ "مَلِكَ"- وَهُوَ مَوْضِعُ تَلٍّ وَرِمَالٍ- وَلَمَّا بَلَغْتُهُ وَأَرَدْتُ الذِّهَابَ جَعَلَ اللهُ فِي رِجْلِي قَيْدًا – أَيْ كَبْلًا – وَلَمْ أَقْدِرْ أَنْ أَذْهَبَ ، وَقُلْتُ لِمَنْ مَعِي كَتَفْسِيرْ عَبْدِ اللهِ جَلُ ، وَجِيرْنُ صَارْ إِنَّ اللهَ جَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا لَا أَقْدِرُ أَنْ أُجَاوِزَ هُنَا " ، وَمَكَثَ السَّيِّدُ وَمَنْ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَصْحَابُهُ فِي شِدَّةٍ، وَالنَّاسُ يُعَذِّبُونَ بَعْضَهُمْ، وَيَحْزَنُونَ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ، وَأَمَرَ مَلِكُ النَّصَارَى النَّاسَ بِطَلَبِهِ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى قَوْمِهِ السَّبْعِ مُجْبَرِينَ عَلَى ذَلِكَ – كَدَكَارْ – وَكُرْ – وَوُكَامْ – وَيُوفْ – وَجَارُيْ – وَامَباوْ – وَتَنْكِيجْ ، وَجَعَلُوا قَائِدًا يَقُودُ شَبَابَ قَوْمِهِ لِطَلَبِهِ ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ الدُّفَ وَالطَّبُولَ كَالْعَرْسِ وَالْوَلِيمَةِ مِثْلَ كُفَّارِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةِ الْهِجْرَةِ ، وَهُوَ سَيِّدُ أَهْلِ زَمَانِهِ ، وَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَنْ يَطْلُبُونَهُ . وَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي طَلَبِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ هِجْرَتِهِ وَبَلَغُوا مُنْتَصَفَ النَّهَارِ وَهُمْ حَيَارَى مِنْ أَمْرِهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوا لَهُ خَبَرًا، وَهُوَ لَيْسَ بِبَعِيدٍ وَلَكِنْ مَنَعَهُمْ اللهُ مِنْ رُؤْيَتِهِ، وَلَمَّا عَلِمَ تَعَبَهُمْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا وَقَالَ لَهُ : قُلْ لَهُمْ أَنَا هَاهُنَا فَلْيَأْتُونِي، وَلَمَّا جَاءُوا كُلُّهُمْ كَأَنَّهُمْ جَرَّادٌ مِنَ الْكَثْرَةِ، قَالَ لَهُمْ: " فَافْعَلُوا مَا تُرِيدُونَ بِي " قَالُوا لَهُ: " وَاللهِ لَا نَقْدِرُ عَلَيْكَ بِشَيْءٍ إِنَّنَا طَلَبْنَاكَ لِعَدَمِ الْقُوَّةِ وَالْخَوْفِ مِنَ النَّصَارَى لَا بِمَشِيئَتِنَا لِأَنَـّكَ سَيِّدُناَ وَمَوْلَانَا" ثُــمَّ قَالَ قَائِدُ أَهْلِ دَكَارْ وَهُوَ يُسَمَّى بِرَمْ فَالْ: " يَا قَوْمُ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْإِمَامَ هَذَا لَيْسَ خَيْرًا مِنَّا أُمًّا " وَأَجَابَ السَّيِّدُ وَقَالَ لَهُ: " أُمِّي خَيْرٌ مِنْ أُمِّكَ لِأَنَّ أَبِي أَوَّلُ مَنْ تَزَوَّجَ أُمَّكَ فَلَوْ كَانَتْ أُمُّكَ مِثْلَ أُمِّي لَا تُـفَارِقُ أَبِي" وَذَلِكَ الْجَوَابُ لِإِظْهَارِ شَجَاعَتِهِ وَعَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهُمْ ثُـمَّ قَالَ لَهُمْ : " لَوْلَا سُبْحَاتِكُمْ الَّتِي فِي أَعْنَاقِكُمْ لَا تَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا (أَيْ مَرَّةً أُخْرَى). وَهَذِهِ الأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا أَوَّلًا، ثُـمَّ جَاءَ وَقَتَ الظُّهْرِ وَأَرَادَ الْوُضُوءَ وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ وُضُوءَهُ لِرُؤْيَةِ رَأْسِهِ وَشَعْرِهِ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ لَا يَبْصُرُ أَحُدٌ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَلَمَّا تَوَضَّأَ حَتَّى وَصَلَ قُرْبَ رَأْسِهِ جَاءَ إِلَيْهِمْ ظَبْيٌ وَهَرَبَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَيْهِ ، وَأَتَمَّ السَّيِّدُ وُضوءَهُ قَبْلَ رُجُوعِهِمْ وَلَمْ يُبْصِرُوا رَأْسَهُ .وَهَذَا مِنْ عَجَائِبِهِ بِقُدْرَةِ اللهِ . وَلَمَّا أَرَادَ تَأْدِيَةَ صَلَاةِ الظُّهْرِ قَالَ لَهُمْ : تَقَدَّمُوا؛ أَنَا عَبْدُكُمْ وَالْعَبْدُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى سَيِّدِهِ وَأَنَا سَبْيٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ سَادَتِي ، وَقَالُوا لَهُ : مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَتَقَدَّمَ عَلَيْكَ وَأَنْتَ سَيِّدُنَا . ثُمَّ تَقَدَّمَ وَصَلَّى بِهِمْ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : فَلْنَذْهَبْ إِلَى النَّصَارَى الَّذِينَ رَجَوْتُمُوهُمْ فِي إِزَالَةِ دَعْوَتِي إِلَى اللهِ . " وَذَهَبَ مَعَهُمْ إِلَى مَلِكِ النَّصَارَى ، وَلَمَّا جَاءَ النَّاسُ مَعَهُ اِسْتَبْشَرَ الْفُسَّاقُ وَالْمُنَافِقُونَ ، وَظَنُّوا أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ إِلَى دَارِهِ أَبَدًا ، وَأَمَرَ مَلِكُ النَّصَارَى أَنْ يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى بِيرْ (مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَلَدِ الْأَرْبَعِ ) ، وَذَهَبَ مَعَهُمْ بِغَيْرِ سِلْسِلَةٍ، وَفَرِحَ أَكْبَرُ الْأَعْدَاءِ عَدَاوَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَهُوَ مَسَيْ يِيسِنْ جَاجْ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَتَوَعَّدُهُ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِ كَأَنَّهُ أَبُو جَهْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَلَمَّا ذَهَبَ السَّيِّدُ مَعَهُمْ إِلَى بِيرْ جَعَلُوهُ فِي سِجْنِهِمْ ، وَأَثَارَ اللهُ سَحَابَةً سَوْدَاءَ فِيهَا مَطَرٌ مَعَ رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَهْدِمُ بَعْضَ الْبِنَاءِ لِشِدَّتِهَا ، حَتَّى خَرَجَ أَحَدُ الْمَجْذُوبِينَ وَ يَجْرِي فِي الْفِجَاجِ يَضْرِبُ الرِّبَاعَ ، وَيَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ : " أَخْرِجُوا هَذَا السَّيِّدَ، إِنْ لَمْ تُخْرِجُوهُ تَهْـلِكُوا سَرِيعًا " ! وَلَمَّا فَزِعُوا لِتِلْكَ الرِّيحِ أَخْرَجُوهُ مِنْ ذَلِكَ السِّجْنِ، وَأَدْخَلُوهُ فِي رَبْعٍ وَاسِعٍ وَ فَرَشُوا لَهُ فِرَاشًا جَيِّدًا جِدًّا وَصَبُّوا فِي الْبَيْتِ رَمْلاً كَثِيرًا وَطَيَّبُوهُ وَنَصَبُوا لَهُ قِدْرًا ِلِأَجْلِ الْمَاءِ وَجَعَلُوا لَهُ فِي الْبَيْتِ كُلَّمَا ظَنُّوا أَنَّهُ يُحِبُّهُ كَالطَّسْتِ وَغَيْرِهِ. وَاخْتَارُوا لَهُ امْرَأَةً صَالِحَةً مُؤْمِنَةً بِهِ لِتَطْبَخَ لَهُ مَا يُحِبُّ مِنَ الطَّعَامِ وَالصَّبُوحِ ، وَيَقْطَعُونَ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ قُوتًا وَإِدَامًا وَكُلُّمَا ظَنُّوا أَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَيَزُورُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ بِقَوْلٍ حَسَنٍ وَلَامُوا إِخْوَانَهُ . وَمَا كَانُوا يُعْطُونَهُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ قُوتٍ هُوَ رِزْقٌ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ إِلاَّ ذَوْقَ شَيْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْبِطِّيخِ أَوْ الْبَقُولِ أَوْ شُرْبَ قَلِيلٍ مِنَ اللَّبَنِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ .
وَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ، دَعَوْا قِسِّيسَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ لِيَنْظُرُوهُ، وَلَمَّا جَاءَ أَحَدُهُمْ وَرَآهُ خَافَهُ جِدًّا وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَنْظُرَهُ، وَطَلَبَ مِرْآةً كَبِيرَةً وَنَصَبَهَا أَمَامَهُ لِيَنْظُرَهُ فِيهَا إِذَا كَانَ يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْمِرْآةِ، وَإِذَا الْتَفَتْ إِلَيْهِ السَّيِّدُ تَرَكَ النَّظَرَ وَإِذَا أَدْبَرَ يَنْظُرُهُ، وَلَمَّا أَتَمَّ نَظَرَهُ خَرَجَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَقَالَ لِلنَّصَارَى: " هَذَا ابْنُ اللهِ ، وَمَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ؟ فَأَرْجِعُوهُ إِلَى دَارِهِ ، إِنْ فَعَلْتُمْ بِهِ مَا يُسِيئُهُ تَهْلِكُونَ سَرِيعًا " . وَقَالُوا لَهُ : " فَارْجِعْ إِلَى دَارِكَ . " فَقَالَ: " لاَ أَرْجِعُ إِلَّا مَعِي تَفْسِيرْ عَبْدُ اللهِ جَلُّ " وَهُوَ سَبَقَ أَنِ اعْتَـقَلُوهُ لِأَجْلِ قَوْلِ الْأَعْدَاءِ فِيهِ. وَقَالَ لِي سَيِّدُنَا إِمَامَ اللهِ: " لَوْلَا عَبْدُ اللهِ جَلُّ لَا أَثْبُتُ فِي بِيرْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. " وَمَكَثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لِأَجْلِ عَبْدِ اللهِ جَلُّ ، وَذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ : ( ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) .
وَلَمَّا تَمَّتِ الْأَشْهُرُ تَرَكُوا التَّفْسِيرَ مَعَهُ، وَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُهُ فِي مَدِينَةِ دَكَارْ قُدُومَهُ إِلَيْهِمْ جَاءُوهُ لِيَجِيئُوا مَعَهُ إِلَى مَدِينَةِ دَكَارْ، فِي دَارِ تِلْمِيذِهِ الْأَكْبَرِ وَخَلِيلِهِ الصِّدِّيقِ وِوَزِيرِهِ وِخَلِيفَتِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَبِي بَكْرٍ صِلَّهْ، وَلَمَّا نَزَلُوا فِي قَرْيَةِ كُورِي وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَفَرِحُوا لِرُؤْيَتِهِ ، وَكَانَ الْأَعْدَاءُ يَفْرَحُونَ لِغَيْبَتِهِ، وَظَنُّوا فِيهِ ظَنَّ السُّوءِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ أَهْلَ اللهِ لَا يُفَارِقُونَ الشِّدَّةَ وَالِابْتِلَاءَ، ثُمَّ قَامَ مَعَهُمْ السَّيِّدُ لِلرُّجُوعِ إِلَى دَارِهِ وَوَطَنِهِ وَبَكَى أَحِبَّاؤُهُ السَّاكِنُونَ فِي قَرْيَةِ كُورِي لِكَثْرَةِ عَطَائِهِ وَجُودِهِ لَهُمْ لِأَنَّهُ كُلَّ مَوْضِعٍ نَزَلَ فِيهِ ضَيْفًا يُطْعِمُ أَهْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَيَقْضِي حَوَائِجَهُمْ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ .
وَلَمَّا رُئِيَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي مَرْسَى كُورِي عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، دَعَاهُمْ أَصْحَابُ السُّفُنِ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ:" جِيئُوا إِلَى سَفِينَتِي، " وَاخْتَارَهَا السَّيِّدُ ، لَكِن اتَّبَعَ أَصْحَابَهُ فِيمَا اخْتَارُوهُ وَدَخَلُوا السَّفِينَةَ الَّتِي اخْتَارَهَا أَصْحَابُهُ، وَتَوَجَّهَتْ مَعَهُمْ نَحْوَ تَنْكِيجْ وَتَرَكَتْ طَرِيقَ دَكَارْ الَّذِي يُرِيدُونَ، وَوَجَدُوا السَّفِينَةَ الَّتِي كَانَ قَدِ اخْتَارَهَا السَّيِّدُ ذَهَبَتْ إِلَى دَكَارْ حَتَّى رَجَعَتْ ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ تِلْكَ السَّفِينَةِ : " يَا شَيْخُ ، جِئْ إِلَى سَفِينَتِي" وَقَالَ السَّيِّدُ لِأَصْحَابِهِ " فَلْنَدْخُلْ فِي السَّفِينَةِ الَّتِي كُنْتُ اخْتَرْتُهَا" ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ إِمَامُ اللهِ بِأَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي صِدْقٍ، وَقَالَ هُوَ كَذِبًا، لَيَصْرِفَنَّ اللهُ كَذِبَهُ صِدْقًا وَصِدْقَهُمْ كَذِبًا. وَلَمَّا نَزَلُوا مِنَ السَّفِينَةِ إِلَى الْبَرِّ، تَوَجَّهَ السَّيِّدُ نَحْوَ دَارِ حَبِيبِهِ وَخَلِيلِهِ وِتِلْمِيذِهِ الْأَكْبَرِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ صِلَّهْ، الَّذِي كَانَ قَبْلَ دَعْوَتِهِ عَالِمًا عَابِدًا وَرِعًا عَادِلًا، وَكَانَ قَاضِيَ الْبَلَدِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَلَمَّا ظَهَرَ سَيِّدُ أَهْلِ زَمَانِهِ الإِمَامُ الْمُنْـتَـظَرُ مَعَ ظُهُورِ عَجَائِبِهِ، آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ لِأَنَّهُ أَرَاهُ اللهُ عَلَامَتَهُ رُؤْيًا قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ، وَلَمَّا آمَنَ بِهِ عَزَلَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْ الْقَضَاءِ لِإِيمَانِهِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَيْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَمْ يُبَالِ بِعَزْلِهِمْ لِمَا آمَنَ بِصَاحِبِ الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ يَوَدُّ رُؤْيَتَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ ، لَكِنْ لَا يُصَدِّقُهُ إِلاَّ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ بِفَضْلِهِ وَنِعْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ كَمَا كَانَ أَهْلُ اللهِ الْأَوَّلِينَ .
وَلَمَّا رَجَعَ مِنْ مِحْنَتِهِ، وَنَزَلَ دَارَ حَبِيبِهِ وَصدِيقِهِ الْأَكْبَرِ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ زَوَّجَهُ بِنْتَهُ الْكَرِيمَةَ، وَمَكَثَ فِي دَارِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً. وَقَالَ لَهُ مَلِكُ النَّصَارَى :
" لَا تَرْجِعْ إِلَى دَارِكَ حَتَّى نُخَاصِمَ قَوْمَكَ الَّذِينَ وَشُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حَتَّى أَفْسَدْنَا دَارَكَ، وَلَا نَتْرُكُهُمْ حَتَّى يَقْضُوا لَكَ مَا تَلَفَ فِي دَارِكَ "
وَلَمَّا دَعَا قَوْمَهُ، وَاجْتَمَعُوا فِي مَحْكَمَةِ النَّصَارَى، وَصَدَّقُوهُ فِي كُلِّ مَا قَالَ، وَكَذَّبُوا قَوْمَهُ فِي كُلِّ مَا قَالُوا ، وَطَلَبُوا رِضَاهُ وَقَالُوا لَهُ " نَدْفَعُ لَكَ مَا تَلَفَ فِي دَارِكَ، وَنَتْبَعُ قَوْمَكَ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَدَتْ دَارُكَ بِسَبَبِهِمْ" وَقَالَ لَهُمْ : " اُتْرُكُوهُمْ، تَرَكْتُهُمْ لِلَّهِ. "
وَمِنْ عَجَائِبِهِ بِقُدْرَةِ اللهِ ، أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ أَهْلَ جَارُيْ كِيجْ، وَأَهْلَ يُوفْ ، وَكَثِيراً مِنْ أَهْلِ دَكَارْ لِيَحْرُثُوا لَهُ بُسْتَانَهُ فِي كَمْبَرِينْ ، وَذَبَحَ بَقَرَتَيْنِ ، وَاسْتَطْبَخَ كَثِيرًا مِنَ الطَّعَامِ ، وَلَكِنْ كَثُرَ النَّاسُ جِدًّا حَتَّى ظُنَّ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ وَلَمَّا أُحْضِرَتِ الْأَوَانِي ظَنَّ أَقَارِبُهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَوَانِيَ لَا يَـشْبَعُ النَّاسُ مِنْهَا ، وَطَلَبَ هُوَ إِنَاءً وَاحِدًا مِنَ الْأَوَانِي ، وَأَخَذَ مِنْهُ قَبْضَةً ، وَدَعَا فِيهَا ، وَقَالَ لِأَقَارِبِهِ: " فَخُذُوا مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ ، وَاخْلِطُوهُ فِي الْأَوَانِي" ، وَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ، جَاءَ النَّاسُ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مِنَ الْكَثْرَةِ ، أَكَلُوا كُلُّهُمْ حَتَّى شَبِعُوا مِنْ صِنْفِ كُلِّ طَعَامٍ ، بَيْنَ الْأُرْزِ وَالسَّوِيقِ وَاللَّحْمِ وَالْمَخْلُوطِ أَيْ ( رَكُ ) : هُوَ طَعَامٌ مَخْلُوطٌ فِيهِ بَقُولٌ وَخُبْزٌ وَلَحْمٌ وَسُكَّرٌ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُحْسِنُ الطَّعَامَ . وَلَمَّا شَبِعُوا كَأَنَّ الطَّعَامَ لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً، وَبَقِيَتِ الْأَوَانِي مَلْأَى، وَبَعْضُهُمْ حَمَلُوا الطَّعَامَ إِلَى دِيَارِهِمْ، بَيْنَ الْمَطْبُوخِ وَالْأَخْبَازِ، وَعَجِبُوا مِنْ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَأَيْضًا كَانَ يُدَاوِي الْأَمْرَاضَ مِنْ كُلِّ مَرِيضٍ بِاللَّمْسِ وَالْمَسْحِ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، وَبَعْضُ الْمَرْضَى يَمْسَحُهُمْ بِيَدِهِ، وَالْبَعْضُ يَنْـفُـخُ فِيهِمْ، وَالْبَعْضُ يَمُصُّهُمْ حَتَّى يَخْرُجَ الْمَرَضُ مِنْ بَطْنِ صَاحِبِ الْمَرَضِ، أَوْ يُعْطِي الْمَرِيضَ لِسَانَهُ فَيَمُصَّهُ ، أَوْ يُلْبِسَهُ ثَوْبَهُ ، أَوْ عَمَامَتَهُ ، أَوْ يَدْعُو لَهُ .وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يَبْرَأُ بِهِ الْمَرِيضُ سَرِيعًا، بِعَوْنِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَا كَانَ يُدَاوِي بِهِ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُحْصِيَهُ. وَجِيءَ إِلَيْهِ يَوْمًا بِرَجُلٍ مَحْمُولٍ، لَمْ يَعَرِفْ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِأَجْلِ الْوَجَعِ، وَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَدَعَا لَهُ مُدَّةً قَصِيرَةً ثُمَّ طَلَبَ مَاءً وَغَسَلَ إِبْهَامَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى، وَقَالَ: اِفْتَحُوا لِي فَمَهُ وَلَمَّا فَتَحُوا فَمَهُ أَدْخَلَ فِيهِ إِبْهَامَهُ، وَلَمَّا جَعَلَهُ فِي فَمِهِ، سَكَنَ مِنِ اضْطِرَابِهِ، وَنَامَ قَلِيلاً ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: مَنْ أَتَى بِي إِلَى هُنَا ؟ وَعَجِبَ الْجَالِسُونَ مِنْ بُرْئِهِ السَّرِيعِ.
وَمِنْ عَجَائِبِهِ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى ، لَمَّا ظَهَرَ وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ فِي الْبُلْدَانِ ، قَامَ شَيَاطِينُ الْإِنَسِ وَالْجِنِّ لِيُفْسِدُوا أَمْرَهُ ، وَذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ تَلاَمِيذُ سَكَّلْ (اسْمُ قَرْيَةٍ ) أَنْ يَأْتُوا إِلَيْهِ، وَفِيهِمْ مُقَدَّمُهُمْ شِيخْ مُمَّرْ جَايْ ، ذُو الْإِيمَانِ الشَّدِيدِ وَالْيَقِينِ، وَلاَقَاهُمْ عَلُوجٌ عَجَمِيٌّ، وَقَالَ : " أَنَا أَذْهَبُ مَعَكُمْ إِلَى شَيْخِكُمْ لِأَنِّي آمَنْتُ بِهِ " وَهُوَ لاَبِسٌ ثِيَابًا بِيضًا، وَظَنُّوهُ رَجُلاً صَالِحًا، وَهُوَ شَيْطَانٌ. وَلَمَّا جَاءُوا مَعَهُ، وَدَخَلُوا دَارَ الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَأَسَرَّ السَّيِّدُ إِلَى بَعْضِهِمْ وَقَالَ: " هَذَا الرَّجُلُ لاَ يَقْرُبْ مِنْهُ أَحَدٌ، وَمَنْ يَقْرُبْ مِنْهُ يَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ "، وَلَمَّا اغْتَسَلُوا وَجَلَسُوا ، وَاحْتَلَقُوا يَذْكُرُونَ اللهَ ، وَالشَّيْطَانُ يُغَنِّي مَعَهُمْ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ الصَّحِيحِ ، وَلَمَّا خَرَجَ السَّيِّدُ الْأَعْظَمُ إِلَى حَلْقَتِهِمْ ، جَاءَ إِلَيْهِ أَيِ الْعَلُوجَ الشَّيْطَانَ، وَجَعَلَ يَدَهُ الْكَرِيمَةَ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ لَهُ : " مَنْ أَنْتَ ؟ مَنْ أَدْخَلَكَ فِي دَارِي ؟" وَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا وَقَالَ : " أَنَا اسْمِي سَجَغْ سِرِيرِيٌّ ، وَمَسْكَنِي دُوتْ :هُوَ اسْمُ قَرْيَةٍ لِلْكُفَّارِ ،وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ شُرْبُ الْخَمْرِ ، وَالزِّنَى ، وَقَتْلُ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِمْ وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ . وَلَمَّا قَالَ لَهُ السَّيِّدُ:" قُمْ وَاذْهَبْ "، وَلَمَّا رَجَعَ مَاتَ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِثْلُهُ مِنْ قَوْمِهِ.
وَأَيْضًا مِنْ عَجَائِبِهِ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى ، جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ عِنْدِ كُورِي، صَبِيَّةٌ وَهِيَ تُغَنِّي، وَتُخْبِرُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ شَيْئًا تُحِقُّ يَوْمًا وَتَكْذِبُ يَوْمًا، وَصَدَّقَهَا قَوْمُهَا فِيمَا تَقُولُ، وَادَّعَوْا لَهَا الْوِلَايَةَ ، وَجَاءَتْ إِلَيْهِ يَوْمًا مَعَ النَّاسِ ، وَلَمَّا رَآهَا الْإِمَامُ نَفَخَهَا فَسَقَطَتْ، وَقَالَتْ : " كَشَفْتَنِي يَا إِمَامَ اللهِ ، أَنَا شَيْطَانَةٌ" فَلَمَّا رَجَعَتْ مَاتَتْ. وَلَمَّا عَلِمَتِ الشَّيَاطِينُ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُفْسِدَ لَهُ شَيْئًا هَرَبُوا مِنْهُ وَلَمْ يَأْتُوهُ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ قَوْمِهِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ قَـلَّ مَا فَارَقَ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَلَمَّا عَلِمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنَ الضُّرِّ وَالْكَيْدِ، وَفَشَا عِلْمُهُ وَعَجَائِبُهُ بِلَا قِرَاءَةٍ، حَسَدُوهُ وَكَانَ بَعْضُهُمْ ذَا أَوْثَانٍ ، وَبَعْضُهُمْ ذَا سِحْرٍ، وَالْبَعْضُ لَهُمْ صَنَمٌ يُخْبِرُ شَيْئًا مِنْ عِنْدِهِ، وَلِبَعْضِهِمْ عُودٌ مَنْصُوبٌ وَرَاءَ بَيْتِهِ ، يَصُبُّونَ عَلَيْهِ اللَّبَنَ وَالدُّخْنَ الْمُدَقَّقَ مَعَ الْمَاءِ كُلَّ يَوْمٍ ، وَيَسْتَخْبِرُونَ الْعِلْمَ بِهِ مَعَ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ خَالِصَةٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ نِسَائِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانَ، وَمَعَهُنَّ رِيَاحٌ شَيْطَانِيَّةٌ تَتَخَبَّطُهُنَّ، وَيُخْبِرْنَ بِشَيْءٍ مِنْ جِهَتِهِنَّ مِنَ الكَذِبِ وَالْبِدْعَةِ. وَلَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ شَيَاطِينُ كَبِيرَةٌ وَشَيْخَاتٌ تَنْصِبُ لَهُنَّ وَقُدُورٌ يُرِيقُونَهَا تَحْتَ النَّصَبِ ، وَقُدُورُ اللَّبَنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ. وَالْعَجَائِزُ إِذَا أَصَابَ أَحَدًا شَيْءٌ مِنَ الْمَرَضِ يَقُلْنَ إِنَّهَا الرِّيحُ وَهِيَ شَيْطَانَةٌ يُسَمُّونَهَا الرِّيحَ، وَيَقُلْنَ نُدَاوِيهَا بِعِلْمِ الْأَوْثَانِ، وَيَجْعَلْنَ لِذَلِكَ وَلِيمَةً تُجْمَعُ فِيهَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَأَهْلُ الْفِسْقِ، وَلَهُنَّ الدُّفُّ وَالْعُودُ يَضْرِبْنَ وَيُصَفِّقْنَ وَيَرْقُصْنَ، وَيَذْبَحْنَ فِيهَا الْبَقَرَ وَالشَّاةَ ، وَيشْرَبْنَ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ الْمُحَرَّمَةَ، وَيَجْمَعْنَ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا فِي دَوَائِهِنَّ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ رِيحَ الشَّيْطَانِ أَجَابَهُنَّ عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلِمَ أَنَّهُنَّ مِنْ أَهْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَرَضَ الرِّيحِ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْئًا، وَرُبَّمَا مَاتَ الْمَرِيضُ فِي دَوَائِهِنَّ، وَقُلْنَ إِنَّ شَيْطَانَهُنَّ غَضِبَ وَكَرِهَ إِتْيَانَهُ لِأَنَّهُ أَيِ الْمَرِيضَ تَأَخَّرَ فِي الْمَجِيءِ ، وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ وَبِدْعَةٌ وَشَيْطَانِيَّةٌ ، وَإِنْ صَحَّ ذُو شَيْطَانَةٍ مِنْهُنَّ، نُصِبَ لَهُ عُودٌ أَوْ حَجَرٌ يَعْبُدُهُ، وُيُرِيقُ عَلَيْهِ شَيْئاً كُلَّ يَوْمٍ مِنَ اللَّبَنِ وَالْمَأْكُولِ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ إِرَاقَتَهُ. وَكَانَ هَذَا عَادَتَهُمْ مِنْ أَوَّلِ الزَّمَانِ إِلَى الْآنِ.
وَلَمَّا جَاءَ إِمَامُ اللهِ الْمُنْتَظَرُ وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ، كُلُّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ إِنْ مَسَّهَا فِي رَأْسِهَا بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، أَوْ نَفَخَ عَلَيْهَا خَرَجَ شَيْطَانُهَا، وَيُخْبِرُ بِأَنَّهُ فُلَانٌ سِرِيرِيٌّ، أَوْ قَالَ أَنَا كُورْ ، أَيِ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهَا شَيْطَانٌ ، فَأَصْبَحَتْ مُسْلِمَةً مُؤْمِنَةً مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، حَتَّى إِنَّ تَلَامِيذَهُ كَانُوا يُدَاوُونَ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ بِذِكْرِ اللهِ ، فَتَخْرُجُ الشَّيَاطِينُ حَتَّى تُصْبِحَ صَحِيحَةً . وَاللَّاتِي أَبَيْنَ، بَقِينَ مَعَ شَيَاطِينِهِنَّ إِلَى الْمَوْتِ، أَعَاذَنَا اللهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِأَمْرِ اللهِ ، أَمَرَ إِمَامُ اللهِ بِتَرْكِ ذَلِكَ، وَقَالَ: " إِنَّ ذَلِكَ جَعَلَهُ اللهُ زَادًا لِيُؤْمِنُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، وَلَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِأَمْرِ اللهِ ، فَاتْرُكُوهُمْ".
وَمِنْ عَجَائِبِهِ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، أَنَّهُ أَجْوَدُ مِنَ الْمُزْنِ إِذَا سَحَّ، وَمِنَ السَّيْلِ إِذَا سَالَ ، وَكَانَ يُعْطِي النَّاسَ مَا يَأْتِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَيُطْعِمُ كُلَّ مَنْ جَاءَ إِلَيْهِ ، وَلَوْ صَغِيرًا أَوِ امْرَأَةً ، لاَ يَتْرُكُ أَحَدًا يَأْتِيهِ وَيَذْهَبُ بِغَيْرِ أَكْلٍ. وَيَطْبَخُ أَطْيَبَ الطَّعَامِ ، وَيُطْعِمُهُ مَنْ زَارَهُ وَجَاءَ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَوْ لِيَنْظُرَهُ، وَلَا تَنْطَفِئُ نِيرَانُ قُدُورِهِ، بَيْنَ الصُّبْحِ وَالْمَسَاءِ وَلَا يُعْطِي طَعَامًا وَاحِدًا، إِنْ أَعْطَى إِنَاءَ الْأُرْزِ حَتَّى شَبِعَ الْآكِلُونَ، أَتَى بِإِنَاءٍ آخَرَ فِيهِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَبَقُولٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ حُلْوٌ جِدًّا.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْهَمِّ غَيْرَ ذِكْرِ رَبِّهِ وَالصَّلَاةِ وَإِعْطَاءِ الْمَالِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَإِعَانَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِغَاثَةِ الْفُقَرَاءِ كَالْعَجَائِزِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ، سَوَاءً عَلَى ذَلِكَ الْأَحِبَّاءُ وَالْبُغَضَاءُ وَالْحُسَّادُ، وَكَانَ يُعْطِي كُلَّ مَا وَصَلَ إِلَى يَدِهِ حَتَّى قَالَ لَهُ أَقَارِبُهُ:" أَنْتَ لَا تَتْرُكُ شَيْئًا، وَلَا تَدَّخِرُ شَيْئًا، وَأَنْتَ ذُو عِيَالٍ" فَقَالَ :" لَا أَدَّخِرُ بَلْ أُعْطِي" ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: " أَنَا عَلِمْتُ أَنِّي أَمُوتُ، وَإِنْ مِتُّ لَا يَأْتِينِي أَحَدٌ بِمَالِي، وَأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي عَلِمْتُ أَنِّي أَنْتَقِلُ مِنْهُ وَلَا أَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكْتُ مَالِي فِيهِ لَا يَأْتِينِي بِهِ أَحَدٌ وَلَا يُرْسِلُهُ إِلَيَّ أَحَدٌ، لَا أَتْرُكُ فِيهِ مَالِي. "
وَكَانَ مِنْ كَثْرَةِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ، يُعْطِي قَوْمَهُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، بَيْنَ الْبَقَرِ وَالشَّاةَ وَالْحِمَارِ وَالسَّفِينَةِ، وَكُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، يَأْتُونَ إِلَيْهِ وَيُعِينُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوهُ رَئِيسَهُمْ، وَيَأْتُونَ إِلَيْهِ فِيمَا حَيَّرَهُمْ أَوْ دَهَمَهُمْ.
وَكَانَ يُكْثِرُ الْإِعَانَةَ لَهُمْ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُكَلِّمُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا خَيْرًا، وَهُوَ أَرَقُّ الْقَلْبِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَا يُحِبُّ إِلَّا نَجَاةَ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَهُمْ جَاهِلُونَ بِأَمْرِهِ أَوْ كَافِرُونَ بِنَعِيمِهِمْ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَوْ عَلِمَهُ النَّاسُ وَصَدَّقُوهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَهُ لَبَكَى إِبْلِيسُ اللَّعِينُ، وَلَكِنْ رُبَّمَا تَرَكَ قَوْمُ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ فَضْلَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ تَرَكُوهُ تَكْذِيبًا أَوْ حَسَدًا، لِأَنَّ الْحَقَّ عِلْمُهُ يَسِيرٌ وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى الطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ ، وَالصَّلَوَاتِ التَّامَّاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَإِعْطَاءِ الْمَالِ ، وَقِلَّةِ الْأَكْلِ إِلَّا ذُو حَقٍّ .
وَمِنْ جُودِهِ، كَانَ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الزَّرْعِ يُرْسِلُ تَلَامِيذَهُ إِلَى بَسَاتِينِ النَّاسِ وَيَحْرِثُونَهَا، وَيُعْطِي الْأُرْزَ وَالدُّخْنَ يُطْبَخُ، وَيُرْفَعُ إِلَى الْحَارِثِينَ وَيَرْفَعُ لَهُمْ مَاءً، وَلَا يَفْعَلُ أَصْحَابُ الْبَسَاتِينِ شَيْئًا إِلاَّ الْجُلُوسَ فِي دِيَارِهِمْ، لَا يُعْطُونَ طَعَامًا وَلَا مَاءً، وَهَذَا فِعْلُهُ مَعَ أَهْلِ الْبَلَدِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ كُلَّ سَنَةٍ. وَهَذِهِ الْخِصَالُ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَحَدٌ مِنَ الْأَشْيَاخِ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذِهِ.
وَمِنْ جُودِهِ وَعَوْنِهِ لِقَوْمِهِ، أَنَّهُ كَانَ يُعِينُهُمْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَيُطْعِمُهُمْ أَطْيَبَ الطَّعَامِ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَقْضِي كُلَّ حَاجَةٍ يَأْتُونَ بِهَا إِلَيْهِ، وَيَقْضِي دُيُونَهُمْ. وَمَنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَمْ يَجِدْ مَالًا، حَتَّى يَمِيلَ النِّكَاحُ إِلَى الْفَسَادِ يُعْطِيهِ مَالًا وَيُصْلِحُهُ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْسِخَ نِكَاحًا وَلَمْ يَجِدْ مَالًا ، وَعَلِمَ مِنَ الزَّوْجِ مَالَا يَحْسُنُ إِنِ اسْتَمَرَّ مَعَهُ فِي النِّكَاحِ، يُعْطِيهِ مَالًا لِيَقْضِي الزَّوْجُ مَالَهُ.
وَكَانَ مِنْ جُودِهِ، يَقْضِي حَوَائِجَهُمْ حَتَّى يَنْقُلَ بُيُوتَ أَزْوَاجِهِ لِمَنْ يُحِبُّ بَيْتًا وَلَمْ يَجِدْهُ، وَيَقْلَعُ سَرِيرَ زَوْجَتِهِ لِمَنْ يُحِبُّ سَرِيرًا وَلَمْ يَجِدْهُ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ حَاجَةٍ كَالْعُودِ ، وَالْحَشِيشِ وَغَيْرِهِ يُعِينُهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَيْ إِمَامَ اللهِ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّ لِنَفْسِهِ غَيْرَ عِبَادَةِ اللهِ، وَلَمْ يَطْلُبْ بُسْتَانًا لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَحْرِثْ وَلَمْ يَغْرِسْ لِنَفْسِهِ بَلْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ. وَكَانَ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ إِلَّا قَلِيلًا، مِنْ مَذْقَةِ لَبَنٍ أَوْ قِطْعَةِ لَحْمِ الْحُوتِ، أَوْ قِطْعَةٍ مِنَ الْبِطِّيخِ أَوْ مِنَ الْبَقُولِ لَا يَذُوقُ غَيْرَ هَذِهِ، وَكَانَ يَجُوع ُفِي كُلِّ وَقْتٍ، وَكَانَ لَا يَذُوقُ طَعَاماً حَتَّى كَانَ جِلْدُ بَطْنِهِ يَلْتَصِقُ بِعَظْمِ ظَهْرِهِ، إِنْ رَأَيْتَ بَطْنَهُ تَظُنُّ أَنَهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ لِشِدَّةِ جُوعِهِ، وَهُوَ أَخَفُّ وَأَنْشَطُ وَأَجْلَدُ مِنْ غَيْرِهِ فِي فِعْلِ اْلخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَوَعْظِ النَّاسِ بِتَرْكِ الدُّنْيَا لِمَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ. وَكَانَ لَا يُبَالِي لَوْمَةَ لَائِمٍ فِي تَرْكِ الدُّنْيَا، وَكَانَ يُدَارِي أَعْدَاءَهُ وَبُغَضَاءَهُ، حَتَّى تَظُنَّ أَنَّهُمْ أَحِبَّاءُهُ، وَلَا يَسْتَمِعُ إِلَى مَا يَبْلُغُهُ مِنْهُمْ مِنَ السَّبِّ وَالْقَوْلِ الْقَبِيحِ، لِأَنَّهُ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ وَاكْتَفَى بِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ غَيْرَهُ .
وَلَمَّا بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ وَدَعَا بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْ خِيَارِ أُمَّتِهِ الْآخِرِينَ كَالْأَوَّلِينَ، وَلَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يَفْتُرْ، وَقَالَ لَيْسَ لِي إِلَّا الدَّعْوَةُ، وَالْأَمْرُ بِيَدِ اللهِ، وَلَكِنْ سَيَأْتِي أَمْرُ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ ، وَأَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ مَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي ، وَلَيْسَ عَلَيَّ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ وَهُمْ أَدْبَرُوا عَنْهُ، وَيَطْلُبُونَ شُيُوخًا غَيْرَهُ يُؤْمِنُونَ بِهِمْ، وَهُوَ سَيِّدُ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَلَا يُرَى أَحَدٌ مِثْلُهُ فِي الْآفَاقِ، وَلَوْ دِيرَتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا، لِأَنَّهُ صَاحِبُ الزَّمَانِ والْإِمَامُ الْمُنْتَظَرُ، وَلَكِنْ كَذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ مَدْيَنَ فِي مُحَمَّدٍ وَشُعَيْبٍ، وَفِي كُلِّ بَلَدٍ ظَهَرَ فِيهِ نَبِيٌّ مِنْ زَمَنِ نُوحٍ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا دَعَا عِشْرِينَ سَنَةً، وَأَمَرَ كُلَّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَنَهَى عَنْ كُلِّ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ، وَتَحَدَّثَ مَعَ مَنْ آمَنُوا بِهِ، كَمَا تَحَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَخْبَرَنَا بِمَا يَأْتِي فِي هَذَا الزَّمَانَ مِنْ فِتْنَةٍ تَكُونُ بَيْنَ النَّصَارَى وَأَهْلِ الْجِلْدِ الْأَحْمَرِ، وَكَثْرَةِ الْمَوْتِ كَالطَّاعُونِ، وَمَوْتِ الْفَجْأَةِ، وَالْفَقْرِ، وَالْجُوعِ وَإِفْتَانِ الْمُلُوكِ لِلنَّاسِ، وَقُبْحِ الزَّمَانِ فِي كُلِّ أُفُقٍ، وَكُلُّ مَا رَأَيْنَاهُ أَخْبَرَنَا السَّيِّدُ بِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى أَهْلِ اللهِ جَمِيعًا.
وَلَمَّا قَرُبَ ارْتِحَالُهُ مِنْ دَارِ الْفَنَاءِ إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ، أَتَتْهُ الْمِحَنُ وَشِدَّةُ الْبَلَاءِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ فِي آخِرِ عُمُرِهِمْ. وَأَصَابَهُ وَجَعُ الْعَيْنِ الشَّدِيدِ وَأُرْسِلَ ِإلَيْهِ الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ، فَقَطَعَ عُرُوَقَ عَيْنِهِ وَزَالَبَصَرُهُ بِالْعَيْنِ، وَبقِيَ نَظرُ قَلْبِهِ. لاَ يَأْتِيهِ أَحَدٌ إِلاَّ أَخْبَرَ بِمَجِيئِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ. وَإِنْ نَظَرْنَا شَخْصًا بَعِيدًا فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَقُلْنَا هَذَا إِنْسَانٌ، وَهُوَ(أَيْ الْإِمَامُ) غَاطٌ وَجْهَهُ، وَقَالَ: "ظَنَنْتُ كَذَا أَوْ رَجَوْتُ كَذَا، أَوْ خُفْتُ كَذَا." يَكُونُ ذَلِكَ بلِاَ شَكٍّ. لكِنْ لاَ يَقْطَعُ. وَمَكَثَ عَلَى تِلْكَ الْمِحَنِ سَبْعَ سِنِينَ، مُدَّةَ مِحَنِ أَكْثَرِ الأَنْبِيَاءِ، كَأَيُّوبَ، وَيُوسُفَ، وَيَعْقُوبَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ.
وَكَانَ إِمَامُ اللهِ لَمْ يُفَارِقِِ الشِّدَّةَ وَالْوَجَعَ مِنْ صِغَرِهِ إلَى كِبَرِهِ، كَالْيَدِ الْوَجِيعِ، أَوْ إِصْبُعٍ، أَوْ سِنٍٍّ، أَوْ أُذْنٍ، وَلَا يُصِيبُهُ مَرَضٌ إِلاَّ كَانَ شَدِيدًا جِدًّا، حَتَّى تَظُنُّ النَّاسَ أنََّهُ لَا يَبْرَأُ لِشِدَّتِهِ. إِذَا جَاءَهُ قَوْمُهُ لِحَاجَةٍ أَوْيَتَحَدَّثُ تَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ َشيْءٌ لِصِحَّةِ كَلَامِهِ، وَضَحْكِهِ وَتَبَسُّمِهِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَطَلَبِ الطَّعَامِ لَهُمْ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ حَتَّى إِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، اِضْطَجَعَ وَاسْتَرَاحَ.
وَلَمَّا أَفْسَدَ ذَلِكَ الطَّبِيبُ عَيْنَيْهِ حَتَّى عَمِيَ، قال الْفُسَّاقُ وَالْجَاهِلُونَ بِهِ : " إِمَامُ اللهِ الذِّي كَانَ يَدَّعِى النُّبُوَةَ قَدْ عَمِيَ، وَكَيْفَ يَعْمَى مَنْ قَالَ أَنَا نَبِيٌّ أَوْ رَسُولٌ "
وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُصِيبُهُمْ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ، إِلاَّ مَا يُفْسِدُ الْجَسَدَ كَالْجُذَامِ، وَلَا يَعْلَمُوَن أَنَّ نَبِيَّ اللهِ شُعَيْبًا قَدْ عَمِيَ ، وَكَانَ يَعْقُوبُ عَلَيهِ السَّلاَمُ عَمِيَ لِبُكَاءِ ابْنِهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَبنَيُّ اللهِ يَحَيَى قُتِلَ فِي الْجِهَاِد ، وَنَبِيُّ اللهِ جَرْجِيسَ قُتِلَ فِي اْلأُخْدُودِ أَيْ حَفْرَةٌ مِنَ النَّارِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ اْلأَنْبِيَاءِ وَالْمُكَذِّبُونَ بِأَنْبِيَاءِ اللهِ قَدْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَأُخْرَى، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ إِمَامَ اللهِ قَالَ: " أَنَا قَدَرُ اللهِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِقَدَرِ اللهِ، كَيْفَ يَتِمُّ إِيمَانُُهُ. " ِلأَنَّ اللهَ أَمَر َبِأَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاْليَوْمِ اْلآَخِرِ، وَقَدَرِهِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِهِ، وَتَرَكَ بَعْضَهُ، لاَ يَتِمُّ إِيمَانُهُ، وَقَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ أَنَ إِمَامَ ْالمُرْسَلِينَ سَيِّدُ اْلعَرَبِ وَاْلعَجَمِ، وَقَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: " وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ " أَيْ نَبِيٌّ وَمَنْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ هَادٍ مِنَ الْعَجَمِ قَبْلَ دَعْوَةِ إِمَامِ اللهِ فِي اْلمَغْرِبِ اْلأَقْصَى، وَهُوَ لَمْ يُخَالِفْ فِعْلُهُ فِعْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي فِعْلِ اْلخَيْرَاتِ، كَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ حَتَّى سَمُّوا أَصْحَابَهُ : أَهْلَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَإِخْلاَصِ الصَّلَوَاتِ اْلخَمْسِ مَعَ اْلوُضُوءِ، لاَ يُرَى أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصَلِّي بِغَيْرِ وُضُوءٍ، لاَ كَبِيرًا وَلاَ صَغِيرًا، لاَ رَجُلاً وَلاَ امْرَأَةً، لاَ تَجِدُ ذَلِكَ عَلىَ فِئَةٍ غَيْرِ فِئَتِهِ، ِلأَنَّهُ قَالَ : " عَقَدْتُ اْلأَمَانَ مَعَ اْلمَاءِ وَالتُّرَابِ؛ لاَ يَضُرُّ اْلمَاءُ مَنْ آمَنَ بِي وَاتَّبَعَ أَمْرِي" وَهُوَ لاَ يَجْلِسُ إِلاًّ عَلَى التُّرَابِ، لاَ َيجْلِسُ عَلَى سَجَّادَةٍ وَلاَ جِلْدٍ وَلاَ حَصِيرٍ، إِلاَّ عَلَى التُّرَابِ فَقَط ,فَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ، هُوَ الَّذِي اجْتَمَعَتْ خِصَالُ اْلخَيْرِ فِيهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ اْلمُحْسِنِينَ مُقْتَدُونَ بِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يًعْلَمُوا حَقِيقَتَهُ، وَهُوَ سَيِّدٌ كَرِيمٌ.
وَلَمَّا بَلَغَتْ مِحْنَتُهُ السَّنَةَ السَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ، وَأَرَادَ الله ُالِانْـتِـقَالَ مِنَ الدُّنْـيَا إِلَى قُرْبِهِ، كَانَ يُكْثِرُ الْوَعْظَ، وَالْوَصِيَّةَ ِلأَصْحَابِهِ، وَأَوْصَاهُمْ بِاْلاِجْتِهَادِ فَي اْلفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالرَّغَائِبِ، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ، وَاْلإِعْطَاءِ، وَإِعَانَةِ اْلمُسْلِمِينَ ، وَالصَّبْرِ عَلَى شِدَّةِ الدُّنْيَا، وَالشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ ، وَالرِّضَى بِقَضَائِهِ، وَيَقُولُ كُلَّ وَقْتٍ : " فَاجْتَهِدُوا فِي فِعْلِ اْلخَيْرِ وَقَوْلِ الْخَيْرِ" وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ كُلِّ صَلاَةٍ :" الَلَّهُمَّ بَابَ الْبُشْرَى بِِكَلِمَةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ "وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ، وَأَجَابَهُ بِذَلِكَ اْلمُؤمِنُونَ اْلمُقْتَدُونَ بِهِ، وَلَمْ نَسْمَعْ صَوْتًا كَصَوْتِهِ فِي اْلحُلْوِ، وَذَلِكَ كَانَ يَنْعَى نَفْسَهُ، وَلَمْ نَعْلَمْ نَحْنُ ذَلِكَ. وَكَانَ يَقُولُ :" مَنْ لَهُ شَيْءٌ يَنْوِي أَنْ يُعْطِيهِ لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيُعْطِنِيهِ أَنَا صَاحِبُهُ" وَيُرَدِّدُ ذَلِكَ مُدَّةً.
َولَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ الََََّذِي هُوَ آخِرُ صَوْمِهِ، كَانَ يَأْمُرُ بِإِخْلاَصِهِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ فِيهِ وَالصَّدَقَةِ وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ فِيهِ، وَقِلَّةِ الْكَلاَمِ مِنَ اْلفُضُولِ. وَلَمَّا انْتَصَفَ الشَّهْرُ، أَمَرَنَا بِأَنْ نَكْتُبَ الْبَرَاوَاتِ إِلَى كُلِّ جِهَةٍ مِنَ السِّنِغَالِ لِيَحْضُرَ أَصْحَابُهُ يَوْمَ عِيدِ اْلفِطْرِ، لَقُرْبِهِ مِنْ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا. وَكَانَ فِي ذَلِكَ اْلوَقْتِ لَمْ يَبْقَ مِنْ جَسَدِهِ إِلاَّ اْلعِظَامُ، وَالْجِلْدُ، وَاْلعُرُوقُ، كَأَنَّهُ عُودٌ مَلْبُوسٌ. وَإِنْ رَأَيْتَهُ جَالِسًا أَوْ جَاثِمًا، يَكُونُ عِنْدَكَ مُشَرَّفًا مُعَظَّمًا يَتَلأْلَأُ وَجْهَهُ مِنَ اْلبَهَاءِ ، وَالنُّورِ وَالخُضْرِ، لَكِنْ إِنْ كَشَفَ ثِيَابَهُ عَنْ بَطْنِهِ وَصَدْرِهِ حَتَّى رَأَيْتَهُ ، تَتَعَجَّبُ مِنْ رَبِّكَ كَيْفَ كَانَ حَيًّا ، لاَ تُمَيّزْ مِنْهُ صَدْرًا وَلاَ بَطْنًا ، ِلأَنَّهُ كَالْعُودِ اْلمَنْصُوبِ ، مِنْ عَدَمِ اللَّحْمِ .
وَلَمَّا جَاءَ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ، أَمَرَ بِإِسْرَاعِ إِتْيَانِ النَّاسِ إِلَيْهِ، لِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَقَالَ: " إِنْ تَأَخَّرْتُمْ لَا أَقْدِرُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ، كَأَنِّي مَيِّتٌ. " وَوَجَدَ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَزِيرَهُ وَخَلِيفَتَهُ وَابْنَهُ، رُوحَ اللهِ سَيِّدَنَا عِيسَى اللهِ غَائِبًا نَحْوَ بَلَدِ كَجُورْ فِي قَرْيَةِ انْكَاخَمْ، وَلَمَّا حَانَ وَقْتُ الضُّحَى، لَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَعَمَّمَ رَأْسَهُ بِعَمَامَةٍ بَيْضَاءَ، وَجَعَلَ فَوْقَهَا عَمَامَتَهُ السَّوْدَاءَ، وَخَرَجَ إِلَى الْجَمَاعَةِ الْبَيْضَاءِ الْحَسْنَاءِ، وَهُوَ كَالشَّمْسِ بَيْنَ الْأَقْمَارِ، وَعَمَامَتُهُ فَوْقَ رُؤُوسِ النَّاسِ بَيْنَ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ مُصَلَّى الْعِيدِ، وَلَمَّا خَرَجَ مِنْ دَارِهِ وَقَفَ لِشِدَّةِ مَا بِهِ مِنْ الْوَجَعِ، وَقَالَ : " لَوْ قِيلَ لَكُمْ إِنَّ الْمَيِّتَ يَتَقَدَّمُ بِالنَّاسِ لَكَانَ عَجَبًا، وَاللهِ أَنَا جَنَازَةٌ" ثُـمَّ مَشَيْنَا حَتَّى حَاذَيْنَا مَسْجِدَهُ وَوَقَفَ ثَانِيًا وَقَالَ: " وَاللهِ أَنَا جَنَازَةٌ. " ثُمَّ ذَهَبَ وَعَلَّقَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ يَتَوَكَّأُ بِهِمْ إِلَى مُصَلَّاهُ، وَجَلَسَ يَتَصَبَّبُ عَرَقًا، وَيَنْتَظِرُ النَّاسَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، لِيَحْضُرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَهِيَ آخِرُ صَلَاةِ عِيدٍ مِنْهُ. وَلَمَّا مَكَثَ قَلِيلًا قَالَ لِي: " يَا مُخْتَارْ لُو مَاذَا قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ؟ فَسَكَتُّ، ثُمَّ سَأَلَنِي ثَانِيًا وَثَالِثًا، ثُمَّ قَالَ لِي: " أَلَمْ يَقُلْ لَهُ أُدْنُ مِنِّي؟ " قُلْتُ بَلَى. وَلَكِنِّي لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ مَا عَنَى بِذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُ مَوْتِهِ، وَحَلَّ أَجَلُهُ جَاءَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ لَهُ : " إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئَكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: وَمَا شِدَّتُكَ، وَمَا هَمُّكَ؟ " فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ لَهُ: " هَمِّي وَشِدَّتِي أُمَّتِي. " ثُمَّ رَجَعَ جِبْرِيلُ إِلَى رَبِّهِ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ لَهُ:" اِرْجِعْ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ أُمَّتَكَ نَاجُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ ذَلِكَ فَرِحَ وَسُرَّ سُرُورًا عَظِيمًا، وَقَالَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: " أُدْنُ مِنِّي " وَكَذَلِكَ إِمَامُ اللهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " اَلْمَهْدِيُّ يَقْفُوا أَثَرِي وَلَا يُخْطِئُ . " وَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَتْبَعَ أَثَرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُخْطِئُ فِيهِ شَيْئًا غَيْرَهُ ؟!!!، وَكَانَ إِمَامُ اللهِ قَالَ : " إِنْ رَأَيْتُمْ فِي خِصَالِي وَأَفْعَالِي مَا خَالَفَ خِصَالَهُ وَأَفْعَالَهُ ، فَاعْلَمُوا أَنِّي لَسْتُ بِإِمَامِ اللهِ " وَلَمْ نَرَ فِي فِعْلِهِ أَوْ خِصَالِهِ مَا خَالَفَ فِعْلَ رَسُولِ اللهِ أَوْ خِصَالَهُ فِيمَا قَرَأْنَاهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَحَادِيثِ. وَغَرَّهُمْ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ: " لَا نَبِيَّ بَعْدِي " لِأَنَّ فِي ذَلِكَ سِرَّ اللهِ لَا يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِإِمَامِ اللهِ وَصَدَّقُوهُ وَاتَّبَعُوهُ وَرَأَوْا عَجَائِبَهُ لَا غَيْرُهُمْ .
وَلَمَّا صَلَّى صَلَاةَ عِيدِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ الْمَلِيحِ يَتَلَأْلَأُ مِنَ النُّورِ، وَوَعَظَ النَّاسَ بِأَنْوَاعِ الْمَوَاعِظِ كُلِّهَا ، وَنَهَاهُمْ عَنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَطَلَبِهَا ، وَوَصَّى بِطَلَبِ الْآخِرَةِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَبُغْضِ الْمَعْصِيَةِ . ثُمَّ قَامَ يَمْشِي مَعَ النَّاسِ هَوْنًا يَذْكُرُونَ اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ، وَعَمَامَتُهُ فَوْقَ رُؤُوسِ الْجَمَاعَةِ ، حَتَّى بَلَغَ بَابَ بَيْتِهِ ، وَجَلَسَ عَلَى التُّرَابِ ، وَأَمَرَنِي بِقِرَاءَةِ الْخُطَبِ جَمِيعًا وَدَعَا لِي بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، ثُمَّ قَامَ وَقَالَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ شَيْئًا فَلْيَسْأَلْ "وَكَرَّرَهُ مَرَّاتٍ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَهُ وَاضْطَجَعَ مَعَ شِدَّةِ مَا بِهِ مِنْ أَلَمِ مَرَضِ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى فِنَاءِ دَارِهِ إِلَى الْمَوْتِ، وَنَحْنُ لَمْ نَكُنْ نَخَافُ مَرَضَهُ ، لِأَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا أَصَابَهُ مَرَضٌ شَدِيدٌ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ يَدٍ شَدِيدَةٍ أَوْ إِصْبُعٍ أَوْ سِنٍّ شَدِيدٍ، لَمْ يُفَارِقْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ بَلَاءَ النَّاسِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَهْلِ اللهِ الْكِبَارِ فِي كُلِّ زَمَانٍ .
وَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ الثَّانِي بَعْدَ يَوْمِ الْعِيدِ، أَمَرَ بِرُجُوعِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْاِثْنَيْنِ الْعَاشِرَ، أَوْ يَوْمَ الْأَحَدِ التَّاسِعَ مِنَ الشَّهْرِ، وَقَالَ: " أَجْعَلُ فِيهِ الصَّدَقَةَ. " وَلَمَّا جَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ذَبَحَ فِيهِ بَقَرَةً مَعَ طَعَامٍ كَثِيرٍ وَأَكَلَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ دَعَا النَّاسَ، وَقَالَ: " أُرِيدُ صَدَقَةً أُخْرَى يَوْمَ الْخَمِيسِ الْمُقْبِلَ " فَلْيُرْسَلْ لِذَلِكَ بَيْنَ دَكَارْ وَيَمْبَلْ وَجَارُيْ وَتَنْكِيجْ فَلْيَجْتَمِعُوا كُلُّهُمْ فِي كَمْبَرِينْ، دَارِ هِجْرَتِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِأَجْلِ صَدَقَتِهِ .
وَلَمَّا جَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ عَشَرَ ذَبَحَ بَقَرَتَيْنِ، وَجَعَلَ طَعَامًا كَثِيرًا مَعَهُمَا، وَاجْتَمَعَ هُنَالِكَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَكَلُوهُ بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وِأَرْسَلَ تِلْمِيذَهُ وَصَاحِبَ سِرِّهِ، وَحَبِيبَهُ، وَصِهْرَهُ عَبْدَ اللهِ كَيْ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَقَالَ لَهُ: " اِذْهَبْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ لَهُمْ إِنِّي مَا فَعَلْتُ هَذِهِ الصَّدَقَةَ لِحُبِّ الصِّحَّةِ وَلَا لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا، بَلْ فَعَلْتُهُ لِلَّهِ وَلِقَطْعِ حَبْلِ الْمُؤْمِنِينَ " وَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْأَكْلِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ تَفَرَّقُوا، كُلُّ فِئَةٍ تَوَجَّهَتْ إِلَى وَطَنِهَا، وَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَمَرَ جُلَسَاءَهُ وَنِسَاءَهُ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ لِيَنَامُوا، وَلَمْ يَبْقَ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ قَلِيلٌ وَسَأَلَهُمْ كَيْفَ اللَّيْلُ وَقُلْنَ لَهُ ذَهَبَ أَكْثَرُهُ، وَوُضِعَتْ لَهُ وِسَادَةٌ ثُمَّ اضْطَجَعَ وَاسْتَلْقَى وَمَدَّ رِجْلَيْهِ، وَقَالَ : " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. " ثُمَّ خَرَجَ رُوحُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَعَلَى آلِهِمْ أَجْمَعِينَ .. ثُمَّ فَزَعَتِ النِّسْوَةُ، وَدَعَوْنَ أَهْلَ الْقُرْبِ مِنْهُ كَأَبْنَائِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَتَحَيَّرَ النَّاسُ وَفَزِعُوا، وَانْدَهَشُوا فِي بَقِيَّةِ اللَّيْلِ، (لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ الرَّابِعَةَ عَشَرَ ، لَيْلَةِ الْبَدْرِ). وَلَمَّا أَصْبَحَ اللهُ صَبَاحَهُ، أَرْسَلُوا إِلَى الْقُرَى وَإِلَى أَصْحَابِهِ، وَوَجَدَ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَزِيرَهُ وَخَلِيفَتَهُ وَابْنَهُ رُوحَ اللهِ سَيِّدَنَا عِيسَى اللهِ عِنْدَ كَاخَمْ، وَنَزَلَ يَوْمَ الْاِثَنَيْنِ وَقْتَ الْعَصْرِ عِنْدَ يَرَاخْ ( اِسْمُ مَوْضِعٍ تَقِفُ فِيهِ سَفِينَةُ الْبَرِّ )، وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ صُبْحَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْاِثْنَيْنِ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ، وَكَذَلِكَ إِمَامُ اللهِ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ، فِي ضَرِيحِهِ جَامَّلَايْ مَوْضِعِ الْبَرَكَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَلَمَّا تَمَّ دَفْنُهُ، وَقَفَ خَلِيفَتُهُ رُوحُ اللهِ سَيِّدُنَا عِيسَى وَوَعَظَ النَّاسَ وَعْظًا شَدِيدًا وَجَدَّدَ مَا كَانَ أَبُوهُ إِمَامُ اللهِ يَأْمُرُ بِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْهُ مِنَ الْمُنْكَرِ، وَرَجَعَتْ عُقُولُ النَّاسِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَمِثْلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ ، فَقَدْ حَارَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا شَيْئًا ، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ لِفَزَعٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ " لَمْ يَمُتْ ، بَلْ هُوَ مَغْشِيٌّ عَلَيْهِ ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ لِأَجْلِ الْوَحْيِ " وَقَالَ بَعْضُهُمْ" مَنْ قَالَ مَاتَ رَسُولُ اللهِ قَتَلْتُهُ " وَهَذَا كُلُّهُ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، وَنَسُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وَاللهُ يُمِيتُ كُلَّ مَنْ أَحْيَاهُ، وَلَمَّا تَمَّ وَعْظُهُ (أَيْ سَيِّدَنَا عِيسَى ) قَامَ لِلرُّجُوعِ إِلَى دَارِ أَبِيهِ، وَازْدَحَمَ النَّاُس فِي وَرَائِهِ إِلَى الدَّارِ، كَأَنَّهُ شَمْسُ الضُّحَى، وَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ جَلَسَ فِي مَوْضِعِ أَبِيهِ، وَجَاءَهُ النَّاسُ لِتَعْزِيَتِهِ عَلَى أَبِيهِ الْكَرِيمِ ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالاِجْتِهَادِ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ ، وَوَقَفَ عَلَى سِيرَةِ أَبِيهِ ، وَاجْتَهَدَ عَلَى ذَلِكَ جِدًّا ، كَأَبِيهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا عَلَى ذَلِكَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَفِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا إِمَامُ اللهِ مِنَ الدُّنْيَا، طَابَ الْبَحْرُ الْمَالِحُ، وَحَلَى مِنْ بَابِ دَارِهِ إِلَى مَوْضِعِ ضَرِيحِهِ، وَلَمْ يَتَعَدَّاهُ، وَشَرِبَ مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَصَبُّوا فِي قُدُورِهِمْ وَزُجَاجِهِمْ وَنَقَلُوهُ إِلَى الْبَرِيَّةِ، وَهَذَا مِنْ عَجَائِبِهِ بِقُدْرَةِ اللهِ، وَارْتِفَاعِ دَرَجَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. آمِينْ اِنْتَهَى
تحميل الكتاب هنا