top of page

أزمة الأخلاق وبعض حلولها من تعاليم إمام الله المهدي

إبراهيم صامب

 اللجنة العلمية

الحمد لله الذي خلق الإنسان وأكرمه بالأخلاق الفاضلة، والصلاة والسلام على المبعوث ليتمم مكارم الأخلاق سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد،

إن الأخلاق الكريمة أساس كل علو رقي ، ومعيار كل فضيلة وتفوّق، وقد كانت أساس رفعته صلى الله عليه وسلم، فأثنى عليه المولى بقوله:(وإنك لعلى خلق عظيم)، والأمم كذلك بالأخلاق الفاضلة ترتقي وتعلو، فهي تسود مادامت أخلاق أبنائها حسنة، وتنهار بانهيارها، وفي ذلك يقول أحمد شوقي:  إنما الأمم الأخلاق ما بقيت          فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وعلى هذا الأساس، غرس النبي صلى الله عليه وسلم الأخلاق الكريمة في أصحابه حتى صاروا  مُثلا عليا في الأخلاق السامية، وأحسن قدوة للبشرية، فقال الرسول في حقهم :(أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) ، ولكن هذه الأخلاق الكريمة بدأت تـمّحي شيئا فشيئا بعد اختفاء الرسول (ص) وأصحابه الكرام، فكلما بعد الناس عن القرن الذهبي كلما ازدادت أخلاقهم سوء، حتى وصلنا في أيامنا هذه إلى زمن اختلط فيه الخبيث والطيب، وأصبحت الأخلاق الفاضلة عملة نادرة، ووصلت الإنسانية إلى درجة من القبح والرجعية توازي فيه الحيوان، ويصدق في حالها قول الحق سبحانه :(أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) ،  فخاف لذلك كل ذي بصيرة، أو من له أقل درجة من الإيمان، وصاح زعماء الإسلام لإعلان حالة الطوارئ، وفي هذا الزمان الذي ينعته الشيخ الخديم بأقبح الزمان:

هذا الزمان أقبح الزمان       لكثرة العصيان في البلدان

أصبح انحراف الشباب مشكلة عالمية يشكو منها جميع الشعوب والبلدان، فلم ينج منها حتى الشاب المسلم الذي أصبح يبتعد شيئا فشيئا عن شمائل الدين ومعالمه، مُـتخلقا بأخلاق الغرب متشبها به في قوله وفعله ولباسه، وأصبح لا يربطه بالإسلام إلا اسمه، انغمس في المخدرات والخمور والتدخين فلم يعُـد يحترم الكبير ، يجهر بسيئاته ، ولا يُـقــدِّرُ العلم ولا أهله، ولا يهتم بالعمل..

وإلى جانب ذلك أخذت الفضائل تمَّحِي في المجتمع عندما فُصِلتِ الأخلاق عن العبادة والإيمان، فترى المسلم يتردد إلى المسجد يخرج الزكاة ويصوم، ولا يمنعه ذلك من الكذب والنفاق والخيانة، ولا يحول بينه وبين التهاون بعمله، وعدم احترام المواعيد وما إلى ذلك ، فأصبح الحال كما أشار إليه عبد الحميد كشك في إحدى خطبه "عمَّ الداءُ ومرض الأطـبَّاء".

والخطر في مجال السياسة والاقتصاد أكبر، فالفلسفة فيه أنّ " الغايات تبرر الوسائل" فكل ما يمكِّـنـُكَ من الوصول إلى هدفك جائز، سواء أ كان كذبا أم خيانة أم سرقة أم قتل نفس؛ فالمهم تحقيق الأهداف،  وكلما يساعد في ذلك مستحسن ومباح.

فبهذا يتبين لنا أن أزمة الأخلاق بلغت أوجها في هذا العصر، و وصلت إلى درجة تجعل البعض يظنون أن الحالة لا تتحسن أبدا، وأنْ لا حلَ لها، ويرى آخرون الحل في محاولة إنقاذ النفس بلزوم البيت والسكوت. فما أسباب هذه الأزمة الخلقية؟

عندما نتدارس هذه الأزمة نجد أنها راجعة إلى أسباب أهمها:

  1. الابتعاد عن القرآن والسنة الراشدة ببعدنا عن قرن النبي (ص)، وهما الضمان الوحيد الذي يُـؤمننا من الضلال، كما قال صلى الله عليه وسلم :( قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه).

  2. احتكاك الثقافات في زمن العولمة، حيث اكتشف المسلمون تقاليد وأعـرافا لم يكن لهم عهد بها، وأصبح شر الخلق والعادات تتسرب في أحصن البيوت والأسر بواسطة قنوات التلفزيون، والإنترنت ووسائل الإعلام الأخرى.

  3. اقتداء المسلمين بالكفار وأهل الكتاب في سلوكهم وتصرفاتهم، كما سبق أن قال (ص) : (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضبَ تبعتموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى، قال فمنْ )

  4. ندرة القدوة، وفسوق الأمراء والفقهاء، وهما الصنفان اللذان يصلح المجتمع بصلاحهما ويفسد بفسادهما، كما قال (ص) :(صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والفقهاء).

  5. فشل أولياء الأمور والمدرسة في تربية الأولاد: حيث تنازل أولياء الأمور عن التربية، واكتفت المدرسة بمهمة التعليم لا غير؛

  6. حب الدنيا والإقبال عليها، وهو رأس كل خطيئة، كما أشار الشيخ الحاج مالك سي إلى ذلك في قصيدته "زجر القلوب عن حب الدار الحلوب" :  ألا حبها رأس المنايا جميعها                ويلقي الدنى ظهر الوراء لبيب

ولذا اسْـتـُـحِـلَ كل حرام تناقض حرمته شهوات نفسية، أو تعرقل مشاريع دنيوية. هذه وغيرها، فيما نرى، أهم أسباب أزمة الأخلاق، ولكن مهما تأزم الموقف فهناك رجاء نستقيه من بشرى النبي (ص) بمجيء الإمام المهدي الذي  يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملأت ظلما وجورا. فما هي الحلول التي أتى ىبها للأزمة الخلقية؟

بعض حلول الأزمة من تعاليم سيدنا إمام الله المهدي عليه السلام

تنبعث الأخلاق الكريمة من روح العقيدة والإيمان، فبصحتهما تزدهر الأخلاق الفاضلة، وبانهيارهما تنهار؛ ولذا يقول محمد قطب في كتابه جاهلية القرن العشرين (ليس هناك مصدر للأخلاق في الحقيقة سوى الدين). فأعظم الحلول إذن لأزمة الأخلاق هو الرجوع إلى الدين والهدى؛ ومساعدة الناس في ذلك هي مهمة جميع الأنبياء والرسل، ومهمة المهدي عليه السلام كما ظهر ذلك في خطبته الأولى حيث قال:( وأوصيكم بالاجتهاد في طاعة الله ورسوله وتوكد إيمانكم، وتعاملوا الخير وتحابوا) ، فهذه الكلمات الوجيزة تحمل في طياتها  حلولا لأعظم المشكلات التي نواجهها، وقد استعمل كلمة "اجتهاد"، لأن الأخلاق الكريمة، بعد التربية المسبقة، شيء يُكتسب بالمعاناة الشديدة ؛ وعلى هذا الأساس، أكَّـد الإمام المهدي ضرورة جهاد النفس، ومحاربة الهوى والشهوات للوصول إلى العقيدة الراسخة والأخلاق النبيلة، فقال ( وأنا آمركم بجهاد النفس وهو حفظ الجوارح ما استطعتم والوقوف على حدود الله كما أمر به)؛ فبقدر اجتهاد الإنسان واستعداده يصل إلى الغاية القصوى من الكمال الخُـلقي ، ويكون ذلك الاجتهاد بالتخلي عن الرذائل كما أشار إلى ذلك المهدي عليه السلام في قوله :( أوصيكم يا أصحابي...بأن... تغتسلوا وتتنظـّـفُـوا في الدنيا) وفي قوله أيضا ( وأوصيكم بترك الغيبة والنميمة والكذب والحكاية لغير محبكم، والحسد والبغض ، والكبر والعجب والرياء) وفي قوله ( ولا تحرصوا على الدنيا فإنها جيفة والجيفة لا يأكلها إلا الكلاب والنسور) وأكبر الرذائل ترجع إلى حب الدنيا، كما قال (ص) :(حب الدنيا رأس كل خطيئة). وأمثال هذه الوصايا كثيرة في خطبه، وقد كان عليه السلام طول حياته داعيا إلى ذلك، مربيا فيه تلاميذه.

وبعد هذه المرحلة الأولى، وهي التخلي عن الرذائل يتمكن الإنسان باجتهاده من التحلي بالفضائل من إخلاص، ومحبة، وصدق،وتواضع، وإيثار، وسعي في تعمير الأرض، كما يتجلى ذلك في قوله :(وتعاونوا وتصابروا وتراحموا وتناصحوا)، وقوله (كونوا مشاة للخير وجلاسا للشر) وقوله ( ولا تأكلوا إلا طيبا، ولا تشربوا إلا طيبا، ولا تركبوا إلا طيبا، ولا تفعلوا في جميع ما تنتفعون به شيئا إلا طيبا) ومثل ذلك كثير، وهي كلمات وجيزة تحمل في طياتها كل ما فيه صلاح المجتمع، ورجوعه إلى مكارم الأخلاق.

ويجب أن تبدأ هذه العملية من القدوة، وهم الأمراء والعلماء والشيوخ، الذين يصلح المجتمع بصلاحهم، ويفسد بفسادهم؛

ولذا قال المهدي عليه السلام في حقهم  ( اعلموا أنه واجب على كل شيخ أن يكون حريصا على طاعة الله ورسوله، ويأمر تلاميذه أن يطيعوا الله ورسوله، ويخوفهم عذاب الله، ويهددهم ويزجرهم، وأن لا يجعل شيئا أهم عنده منهم من طاعة الله ورسوله...) وإلا يحاسب عليه إن لم يهتم بتربيتهم وإصلاح أمرهم، ويجب أن يكون أيضا خير قدوة لهم، كما كان الإمام المهدي أحسن قدوة لأصحابه، يسبقهم إلى كل ما يأمرهم به، ولذا نجح في إرشادهم، فكان يقول :( كلما أمرتكم به من العمل الصالح البدني، والقول الصالح اللساني إن شاء الله أكون أمامكم ولا تبلغونني فيه، فانظروا إليّ واقتدوني في فعلي وقولي إن وفيتم أدخلكم طريق النجاة) تخيلوا لو كان كل هؤلاء الشيوخ مثل هذا الرجل، إذن لانتفأت الجرأة على المعصية لأنها ما نشأت إلا من تهاون كثير من الشيوخ بالدين بسبب ألقابهم، أو ضمان يرجونه من أجدادهم.

ومن جهة أخرى،ينبغي أن يتحمل الكبار مسئولية تربية الأولاد لأنهم تحت رعايتهم، ولذا ألح سيدنا إمام الله المهدي في تعاليمه على مسئولية الوالدين في تربية الأطفال، فقال ( أوصيكم بالعيال كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته)، ثم ذهب إلى أن تأديب الأولاد حق لهم يحاسب عليه الوالد إذا لم يقم به، حيث قال ( فإن العيال يسوقون أولياءهم حتى يوقفوهم بين يدي الله...[فيقولون] يا ربنا خذ لنا حقنا من والدنا هذا، لم يسمنا اسما من أسماء الصالحين، ولم يؤدبنا، ولم يعلمنا شيئا من كتاب الله، ولم ينهنا عما نهى الله عنه، ولم يأمرنا بما أمر الله به، تركنا وأطلقنا نفعل ما نشاء من القبيح، يا ربنا خذ لنا حقنا منه) فعلى الرجال إذن تحمل مسئولياتهم في تربية الأولاد ومراقبة النساء في البيت لأن أساس الأخلاق الفاضلة  يكتسبه المرء في طفولته بالتربية الحسنة، كما يقول الشاعر:

 الأمّ مدرسة إذا أعددتها             أعددت شعبا طيب الأعراق

لم يكتف الإمام المهدي بذلك، لكنه أمر بتشغيل الأولاد بالعبادة عن الرذائل ، لأن كثيرا من الرذائل يجربه الإنسان في فترات الفراغ لأنّ " النفس البشرية مثل الزجاجة الفارغة إذا لم يملأها شيء ملأها الهواء"، ولذا أوصى المهدي بأن يؤمر الأولاد بالعبادة، فيتعودون على الصلاة وذكر الله في طفولتهم، فلا يهتمون بما عداه.

أما فيما يتعلق بالنساء اللواتي يُـكوّنّ أكبر فتنة وأضرها على الرجال من حيث لباسهن، وقلة حيائهن، أمر المهدي بإدخالهن في نكاح تفويض، لأن شيوع الفواحش والزنا والسفور يرجع بكثير إلى تأخير الزواج، كما يقول وِلْ دِيُورَنتْ في كتابه مناهج الفلسفة :" لسنا ندري مقدار الشر الاجتماعي الذي يمكن أن نجعل تأخير الزواج مسؤولا عنه"، وذلك يوافق قوله صلى الله عليه وسلم (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وإلا  تكن في الأرض فتنة وفساد كبير) فيكون محاربة ذلك الفساد، واستئصال تلك الفتنة بتعجيل النكاح، كما أمر بذلك الإمام المهدي، وطبّقه خلفاؤه أحسن تطبيق، حتى أصبح للزواج حفلات يزوج فيها الرجال بمهور مناسبة لقدراتهم المادية، وقد تمكن الخليفة سيدنا عيسى الثاني في أول جولة قام بها لهذه المهمة من عقد 280 نكاحا سنة 1984م، وما زالت هذه الحفلات تقام في أكثر القرى اللهينية، وهي مناسبات تُـمَـكـِّـنُ الشباب من الدخول في الحياة الزوجية مبكرين، ويبقى ذلك سلاحا كبيرا لمحاربة الفتن والفواحش المتعلقة بالعزوبة.

في الختام نرى  أن الأزمة الخلقية من أكبر الأزمات بروزا  في مجتمعاتنا، وهي تمس جميع جوانب الحياة، وجميع مستويات المجتمع، وأن أكبر أسبابها بُعد الإنسان عن هدى الحكيم الخبير، وسنة نبيه المختار، وأن أكبر حلولها يتمثل في الرجوع إليهما، وأن المهدي هو المبشر به لإنقاذ البشرية من أزمات آخر الزمان، وقد أتى بحلول لمشكلات العالم كلها وطبّقها على عيّنة أصبحت يُـشار إليها بالبنان في الهداية، والأخلاق الكريمة؛ فعلينا إذن إذا أردنا أن نخرج من هذه الظلمات  التي تملأ الأرض  أن نرجع إلى هذه التعاليم ونعمل بها، فالحكمة ضالّة المؤمن ، والهدى خير مطلب له، والحق يقول :(فإمّا يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى)

إبراهيم صامب

اللجنة العلمية

bottom of page