الخطبة الثانية لسيدنا إمام الله
هَذِهِ اَلْخُطْبَةُ حَثَّ فِيهَا سَيِّدُنَا إِمَامُ اللَّهِ جَمِيعَ أَحِبَّائِهِ وَأَخِلَّائِهِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَخَاصَّةً بَيْنَ الْمُتَزَوِّجِينَ، وَبَيَّنَ لَهُمُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ الْمَوْجُودَ فِي صَبْرِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى سُوءِ خُلُقِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَتَفَقَّدُ أَحْوَالَهُمْ وَمَسْئُولِيَاتِهِمْ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، هَلْ يَتَحَمَّلُونَهَا كَمَا يَنْبَغِي أَمْ لَا. وَهَذَا التَّفَقُّدُ هُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ " أَزُورُكُمْ" وَذَاكَ يَتَنَاوَلُ الْمُعَاشَرَةَ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْعِبَادَاتِ، وَالْمَوْتَ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ التَّجْهِيزِ، وَالْقَبْرِ، وَالْبَعْثِ، وَالْقِيَامَةِ، وَالصِّرَاطِ، وَحَوْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ بِالْبِدْعِ، وَالسِّحْرِ وَغَيْرِ ذَالِكَ لَا يَشْرَبُ مِنْهُ أَبَدًا. فَحَثَّ التَّلَامِيذَ عَلَى تَرْكِ السِّحْرِ وَلَوْ كَتْبًا (بِفَتْحِ الْكَافِ وسُكُونِ التَّاءِ).
ثُمَّ اسْتَمَرَّ يُبَيِّنُ أَنَّهُ يَتَفَقَّدُ أَحْوَالَهُمْ عِنْدَ الْوُصُولِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، وَالدُّخُولِ فِيهَا، وَأَتَمَّ كَلَامَهُ بِتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ عِنْدَ اِلْتِقَاءِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَبْكَارِ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ سَيِّدُنَا الْإمِامُ الْمَهْدِيُّ: " هُنَا تَنْجَحُ الْحَوَائِجُ"، ثُمَّ خَتَمَ اَلْخُطْبَةُ كَعَادَتِهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالرَّحْمَةِ وَالنَّجَاةِ وَالْهِدَايَةِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَقْضِي عَلَيْنَا وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ الْمُصْطَفَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا بَعْدُ
فَمِنْ إِمَامِ اللَّهِ إِلَى أَحِبَّائِهِ وَأَخِلَّائِهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَعَلَى أَهْلِيكُمْ كُلِّهِمْ. فَإِنَّنِي أُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ، وَأَسْأَلُ عَنْ حَالِكُمْ، وَعِيَالِكُمْ، وَدِيَارِكُمْ، وَجِيرَانِكُمْ ، وَءَابَارِكُمْ، وَبُسْتَانِكُمْ ، وَأَثْوَابِكُمْ، وَظُرُوفِكُمْ، وَمِيَاهِكُمْ، وَأَسْأَلُ عَنْ دِينِكُمْ كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعِيَالِكُمْ، وَكَيْفَ الرِّعَايَةُ الَّتِي تَرْعَوْنَ بِهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْعَبِيدِ، والْأَمْوَالِ، وَكَيْفَ تَحْفَظُونَهُمْ مِنَ الزَّيْغِ وَالْظُلْمِ وَالْفَسَادِ. وَكَيْفَ تَأْمُرُونَهُمْ بِتَعَلُّمِ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَالْإِجْتِهَادِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَكَيْفَ تُصْلِحُونَهُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، وَكِسْوَةٍ، وَمَسْكَنٍ، وَإِصْلَاحٍ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَرِفْقٍ، وَتَصَبُّرٍ فِي بَعْضِ عَثَرَاتٍ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَيُّمَا رَجُلٍ صَبَرَ لِزَوْجَتِهِ سُوءَ خُلُقِهَا، أَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَرَضِهِ. وَكَانَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَجُرُّهُ الدِّيدَانُ، وَتَأْكُلُ لَحْمَهُ، وَتَشْرَبُ دَمَهُ، مُدَّةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ صَيَّرَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَالِكَ الْمَرَضِ، مُعَافًا مُصَحَّحًا، مُلْبَسًا ثِيَابًا فَاخِرَةً مِنَ الدِّيبَاجِ، وَالْحَرِيرِ، وَمُتَوَّجًا بِتَاجِ الذَّهَبِ، بَعْدَ ذَهَابِ مَرَضِهِ كُلِّهِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَذَالِكَ كُلُّ إِمْرَأَةٍ صَبَرَتْ لِزَوْجِهِ سُوءَ خُلُقِهِ، أَعْطَاهَا اللَّهُ ثَوَابَ رَحْمَةَ زَوْجَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهِي الَّتِي صَبَرَتْ وَحَمَلَتْ مَؤُونَةَ أَيُّوبَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَبَعْدَ ذَهَابِ أَمْثَالِهَا مِنَ الْأَزْوَاجِ. وَكَانَتْ تَحْمِلُهُ كَوَلَدٍ، وَتَذْهَبُ بِهِ إِلَى الْقُرَى وَالْفَلَاةِ، وَكَانَتْ تُسْتَأْجَرُ، وَتَطْحَنُ، وَتَطْبَخُ لَهُ حَتَّى بَلَغَتْ هَذِهِ الْمُدَّةَ،
وَلَمْ تَزَلْ تَصْبِرُ وَتَجَلَّدُ، وَتَرْجُو رَبَّهَا لِزَوْجِهَا حَتَّى أَذْهَبَ اللَّهُ مَرَضَ زَوْجِهَا، وَرَدَّهُ إِلَى نِعْمَتِهِ الْأُولَى، وَذَالِكَ بَعْدَ ذَهَابِهَا إِلَى الْقُرَى لِتَسْتَأْجِرَ[1] مَا تَطْبَخُهُ لَهُ.
وَلَمَّا رَجَعَتْ، وَجَدَتْهُ مُكَرَّمًا، مُعَظَّمًا، مُفَضَّلاً، مُتَوَّجًا بِتَاجِ الذَّهَبِ، وَهُوَ لَابِسٌ مِنَ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، فَأَنْكَرَتْهُ، وَلَمْ تَعْرِفْهُ. فَقَالَتْ لَهُ:" أَلَمْ تَرَ الْمُبْتَلَى"؟ فَأَجَابَهَا:" وَمَا هُوَ مِنْكِ؟ فَقَالَتْ لَهُ:" هُوَ زَوْجِي"، وَقَالَ لَهَا:" هَلْ تَعْرِفِينَنِي"؟ قَالَتْ لَهُ:" أَظُنُّ أَنَّكَ هُوَ". قَالَ لَهَا:" نَعَمْ، أَنَا أَيُّوبُ، رَدَّنِي اللَّهُ عَلَى صِحَّتِي بِقُدْرَتِهِ وَكَرَمِهِ".
وَاعْلَمْنَ يَا نِسَاءَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّ مَنْ صَبَرَتْ لِزَوْجِهَا، يُعْطِيهَا اللَّهُ ثَوَابَ رَحْمَةَ زَوْجَةِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى فِعْلِهِ.
وَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ:" إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ".
وَبَعْدَ ذَالِكَ، أُعْلِمُكُمْ أَنِّي أَزُورُكُمْ زِيَارَةَ السَّيِّدِ لِعَبِيدِهِ، وَالْعَبْدُ يَبِيتُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ عِنْدَ مَبِيتِهِ، وَإِذَا غَدَا السَّيِّدُ، يَزُورُهُ حُتَّى يَعْلَمَ كَيْفَ بَاتَ، وَكَيْفَ غَدَا، ثُمَّ أَمَرَهُ بِصُنْعَةِ ذَالِكَ الْيَوْمِ، وَمَنْزِلِهِ، وَمَقِيلِهِ، وَعَلَّمَهُ الْأَفْعَالَ الصَّالِحَاتِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ. أَزُورُكُمْ زِيَارَةَ الرَّاعِي لِرَعِيَّتِهِ، لِأَنَّ الرَّاعِيَ إِنْ أَوْثَقَ غَنَمَهُ عِنْدَ مُرَاحِهَا، وَبَاتَ هُوَ فِي مَضْجَعِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَزُورَهَا فِي الْغَدَاةِ حَتَّى يَعْلَمَ هَلِ انْحَلَّتِ الْغَنَمُ أَمْ لَا؟
وَأَيْضًا أَزُورُكُمْ فِي بَسَاتِينِكُمْ، بُسْتَانِ دُنْيَاكُمْ وَبُسْتَانِ آخِرَتِكُمْ، بُسْتَانِ حَيَاتِكُمْ وَبُسْتَانِ مَمَاتِكُمْ. وَأَنْظُرُكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ، وَكَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَكَدْكَدِهَا، وَمَئَامِلِهَا، وَكَيْفَ تُصْلِحُونَ فِيهَا عَمَلَ الطَّاعَةِ، كَالطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ.
وَأَنْظُرُكُمْ فِيهاَ، وَكَيْفَ تُزَكُّونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَسَاعَةٍ، وَكَثْرَةِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَثْرَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَثْرَةِ التَّفَكُّرِ فِي مُعْجِزَاتِ اللَّهِ،كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْجِبَالِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالْبِحَارِ، وَالْأَنْهَارِ، وَغَيْرِ ذَالِكَ.
وَأَنْظُرُكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ، وَكَيْفَ تَفْعَلُونَ بِهَا، مِنْ إِسْرَاعِ الْإِجَابَةِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَمَا تَقُولُونَ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ وَكَيْفَ تَقُومُونَ فِي الصُّفُوفِ، وَكَيْفَ تُكَبِّرُونَ، وَكَيْفَ تَتَضَرَّعُونَ، وَكَيْفَ تَرْكَعُونَ، وَكَيْفَ تَسْجُدُونَ، وَكَيْفَ تَرْتَفِعُونَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَكَيْفَ تَقْعُدُونَ، وَكَيْفَ تَقْرَؤُونَ، وَكَيْفَ تُصْلِحُونَ أُمُورَ الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَكَيْفَ تُسَلِّمُونَ، وَكَيْفَ تَذْكُرُونَ اللَّهَ، وَكَيْفَ تُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ تَدْعُونَ رَبَّكُمْ، وَكَيْفَ تَتَرَحَّمُونَ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ تَنْتَظِرُونَ الدُّعَاءَ.
إِعْلَمُواْ أَنَّ جِمَاعَ الْخَيْرِ كُلِّهِ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِمَادُ الدِّينِ، فَمَنْ أَصْلَحَهَا فَكَأَنَّمَا أَصْلَحَ الدِّينَ، وَمَنْ أَهَانَهَا فَكَأَنَّمَا أَهَانَ الدِّينَ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ".[2]
وَأَيْضًا أَزُورُكُمْ فِي أَلْسِنَتِكُمْ، فِي نُطْقِهَا وَصُمْتِهَا، وَفِي أَعْيُنِكُمْ، فِي نَظَرِهَا، وَغَضِّهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ الْكَرِيمِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ:" قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَائِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ".[3]
وَأَيْضًا أَزُورُكُمْ فِي مَشْيِكُمْ، وَفِي قُعُودِكُمْ، وَأُوصِيكُمْ بِأَنْ تَكُونُواْ مُشَاةً لِلْخَيْرِ، وَجُلَّاسًا عَنِ الشَّرِّ، وَكُونُواْ فِي إِصْلَاحٍ، وَلَا تَكُونُواْ فِي فَسَادٍ، وَانْظُرُواْ عُيُوبَكُمْ، وَلَا تَنْظُرُواْ عُيُوبَ غَيْرِكُمْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ تَظْهَرَ عُيُوبُهُ، فَلْيَنْبِشْ عُيُوبَ غَيْرِهِ.
وَأَيْضًا أَزُورُكُمْ فِي جَوَارِحِكُمْ كُلِّهَا، وَفِي أَفْعَالِكُمْ، فَأَحْسِنُوهَا وَلَا تُقْبِحُوهَا، إِنْ تَظُنُّواْ أَنِّي لَمْ أَعْلَمْ، وَلَمْ أَبْصُرْ، وَلَمْ أَقْرُبْ، إِنَّ رَبِّي عَلِيمٌ بَصِيرٌ قَرِيبٌ، وَسَيَجْزِي كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، وَمَنْ لَقِيَ خَيْرًا غَدًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَمَنْ لَقِيَ شَرًّا فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
وَأَيْضًا أَزُورُكُمْ فِي وَقْتِ مَرَضِكُمْ، وَاضْطِجَاعِكُمْ، وَتَقَلُّبِكُمْ، وَلَجْلَجِكُمْ، وَرَوْعِكُمْ، وَفَزْعِكُمْ، وَبَرْدِكُمْ، وَحَرِّكُمْ، وَقِلَّةِ أَمَلِكُمْ تِلْكَ السَّاعَةِ غَيْرَ الْبُرْءِ وَالصِّحَّةِ.
وَأَيْضًا أَزُورُكُمْ فِي وَقْتِ نَزْعِ الرُّوحِ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْحُلْقُومِ، وَرَفْعِ الْعَيْنَيْنِ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَبْضِ الْيَدَيْنِ، وَالْعَطَشِ عِنْدَ ذَالِكَ الْوَقْتِ، وَقِلَّةِ الْقُوَّةِ، وَضُعْفِ الْقَوْلِ، وَشِدَّةِ النَّظَرِ، وَمُرُورِ الرُّوحِ مِنَ الصَّدْرِ، وَغَرْغَرَةِ الصَّدْرِ، وَبَرْدِ الرِّجْلَيْنِ، وَنُزُولِ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَإِفْزَاعِهِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ سَعِيدًا، وَنَظَرِهِ، وَكِبَرِهِ، وَحُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَطُولِ رُمْحِهِ، وَمَا مَعَهُ مِنْ أَعْوَانٍ غِلَاظٍ شِدَادٍ.
وَأَزُورُكُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ زِيَارَةَ الْحَبِيبِ لِحَبِيبِهِ، وَأَنْظُرُ كَيْفَ تَخْرُجُ أَرْوَاحُكُمْ، وَأَنْظُرُكُمْ فِي وَقْتِ غَسْلِكُمْ، وَكَيْفَ تُرْفَعُونَ مِنَ التُّرَابِ، وَالْمَضَاجِعِ الَّتِي تَمُوتُونَ عَلَيْهَا، وَكَيْفَ يَرْفَعُكُمْ أَرْبَعَةٌ أَوْ سِتَّةٌ، وَأَنْتُمْ تُثْنُونَ، وَتُلَيَّنُونَ، وَتُوضَعُونَ فِي الْمَغْسَلِ، وَلَا تَقْدِرُونَ لِأَنْفُسِكُمْ عَلَى شَيْءٍ.
وَأَزُورُكُمْ فِي دُخُولِ الْقَبْرِ، وَعِنْدَ وَضْعِكُمْ فِي الْقَبْرِ، وَنَصْبِ الَّلبِنِ، وَحَلِّ عَقْدِ الْكَفْنِ، وَوَضْعِ الْأَعْوَادِ وَالْحَشِيشِ عَلَيْهِ، وَحَثْوِ التُّرَابِ، وَانْقِلَابِ الشُّيَّاعِ، وَبَقِيَ الْمَيِّتُ وَحْدَهُ فِي قَبْرِهِ مَعَ عَمَلِهِ، إِنْ كَانَ الْعَمَلُ خَيْرًا، فَرِحَ وَسُرَّ سُرُورًا عَظِيمًا، وَرَأَى صِدْقَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ"، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ خَيْرًا عَبَسَ، وَفَزِعَ، وَبَكَى، وَكَانَ عَمَلُهُ عَذَابًا يُعَذِّبُهُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ.
وَأَيْضًا أَزُورُكُمْ فِي سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، إِسْمُهُمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ، هُمَا كَانَا عَظَمَيِ الْخَلْقِ، أَسْوَدَيْنِ، أَزْرَقَيِ الْعَيْنَيْنِ، وَفِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْمَعَةٌ، وَلَوِ اجْتَمَعَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَحْرِيكِهَا، وَهِيَ أَخَفُّ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ رِيشَةٍ، فَوَ اللَّهِ لَا يَرْحَمَانِ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هُمَا يُقْعِدَانِ الْمَيِّتَ وَيَسْأَلَانِهِ عَنْ تَوْحِيدِهِ لِرَبِّهِ، وَإِقْرَارِهِ بِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ أَجَابَهُمَا بِأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَحَّبَاهُ، وَسَهَّلَا لَهُ، وَكَرَّمَاهُ، وَعَظَّمَاهُ، وَأَحَبَّاهُ، وَوَقَّرَاهُ، وَسَكَتَا، وَانْصَرَفَا عَنْهُ، وَبَقِيَ الْمَيِّتُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ. وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِرَبِّهِ، وَإِقْرَارِ الرِّسَالَةِ لِلنَّبِيِّ الْكَرِيمِ إِلَّا أَنَّهُ فَزِعَ، وَتَحَيَّرَ، وَدَهِشَ، وَعَذَّبَاهُ عَذَابًا شَدِيدًا، حَتَّى خَرَجَ اللَّبَنُ الَّذِي كَانَ قَدْ رَضِعَهُ مِنْ ثَدْيَيْ أُمِّهِ، وَتَرَكَاهُ فِي الْعَذَابِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ.
وَأَزُورُكُمْ فِي وَقْتِ الْبَعْثِ، وَرَفْضِ التُّرَابِ عَنْ رُؤُوسِكُمْ، وَعِنْدَ سَوْقِ الْخَلَائِقِ إِلَى مَوْضِعِ الْقِيَامَةِ، وَيُضْرَبُ بَعْضٌ، وَيُطْعَنُ بَعْضٌ، وَيُوثَقُ بَعْضٌ، وَيُدْخَلُ أَيْدِي بَعْضٍ فِي صُدُورِهِمْ، وَتُخْرَجُ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ، وَيُعْمَى بَعْضٌ، وَيُخْرَسُ بَعْضٌ، وَيُصَمُّ بَعْضٌ، وَيُجْذَمُ بَعْضٌ، وَيُبْرَصُ بَعْضٌ، وَيُسْكَرُ بَعْضٌ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَقُومُواْ،
وَيُوجَعُ بَعْضٌ، وَهَذَا الْيَوْمُ يَوْمٌ شَدِيدٌ، لَا يَذَّكَرُ أَحَدٌ أَحَدًا، كُلُّ نَفْسٍ يُغْنِيهَا أَمْرُ نَفْسِهَا، غَيْرَ السَّيِّدِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَيْضًا أَزُورُكُمْ فِي مُرُورِكُمْ إِلَى مَوْضِعِ الْقِيَامَةِ، وَذَالِكَ يَوْمٌ حَارٌّ، مُظْلِمٌ، طَوِيلٌ، يَوْمُ الزِّلْزِلَةِ، وَيَوْمُ النَّدَامَةِ، وَيَوْمُ الْعَطَشِ، وَيَوْمُ الذِّلَّةِ، وَيَوْمُ الْفُضُوحِ، وَيَوْمُ الْخَسَارَةِ، وَيَوْمُ الْبُكَاءِ، وَيَوْمُ التَّغَابُنِ، وَيَوْمُ التَّلَاقِي، وَيَوْمُ الطَّلَاقِ، وَيَوْمٌ تَظْهَرُ فِيهِ الْعُيُوبُ، وَيَوْمُ يُدْعَى كُلُّ أُنَاسٍ[4] بِإِمَامِهِمْ، وَكُلُّ تَابِعٍ يَتْبَعُ عَلَى مَنْ تَبِعَهُ فِي الدُّنْيَا وَ ءَامَنَ بِهِ، وَذَالِكَ الْيَوْمُ يَظْهَرُ فِيهِ فَضْلُ خَيْرِ خَلْقِ اللَّهِ، وَفَضْلُ أَوْلِيَائِهِ، وَفَضْلُ أُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَزُورُكُمْ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامَةِ الطَّوِيلِ، وَفِي وَقْتِ وَضْعِ الْمِيزَانِ، وَمَنْ ثَقُلَ خَيْرُهُ، سَعِدَ وَنَجَا، وَسُرَّ سُرُورًا عَظِيمًا، وَمَنْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ شَقِيَ، وَذَلَّ، وَخَسِرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ".[5]
وَأَيْضًا أَزُورُكُمْ عِنْدَ تَطْيِيرِ الصَّحَائِفِ إِلَى أَصْحَابِهَا، وَمَنْ نَزَلَ كِتَابُهُ بِيَمِينِهِ، سَعِدَ، وَفَرِحَ، وَنَجَا، وَمَنْ نَزَلَ كِتَابُهُ بِشِمَالِهِ، عَبَسَ، وَبَكَى، وَيَكُونُ فِي كُلِّ كِتَابٍ عَمَلُ صَاحِبِهِ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّنَا أَحَدًا، وَلَا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَدًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَزُورُكُمْ أَيْضًا فِي الصِّرَاطِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَالنَّارُ تُوقَدُ، وَتَلْتَهِبُ، وَتَدْخَنُ، وَتَفُورُ، وَتَغِيظُ[6] لِمَنْ عَصَى رَبَّهُ، وَتُعَجِّلُهُ بِالْعَذَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ"، وَاللَّهِ مَنْ نَزَلَ عَنْهُ، سَقَطَ فِي النَّارِ، وَفِيهَا مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ، وَالْأَغْوَارِ، وَالْعَذَابِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى، وَكُلُّ مَا قِيلَ لَكُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فِيهَا غَيْرُهُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِدُخُولِهَا، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا. وَالصِّرَاطُ مَوْضُوعٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ أَرَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، وَأَحْمَى مِنَ الْجَمْرِ، وَأَشَدُّ اِضْطِرَابًا مِنَ الْحَيَّةِ، وَمَبْدَؤُهَا وَمُنْتَهَاهُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةَ آلَافِ عَامٍ، وَلَا يُدْخَلُ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا بِجَوَازِهِ.
وَأَزُورُكُمْ أَيْضًا عِنْدَ وُرُودِكُمْ حَوْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَا يَظْمَأُ أَبَدًا، وَمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ بِالْبِدَعِ، وَالسِّحْرِ، وَغَيْرِ ذَالِكَ لَا يَشْرَبُ مِنْهُ. إِنْ أَرَدْتُمُ النَّجَاةَ فَأَصْلِحُواْ عِبَادَتَكُم ْلِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ قَلَّ دُومُواْ عَلَيْهَا، وَلَا تَخْلِطُواْ فِي عِبَادَتِكُمْ الْكَذِبَ، وَالْخِيَانَةَ، وَالْفِسْقَ، وَالْبِدْعَةَ، وَالسِّحْرَ، وَلَوْ كَتْبًا،[7] وَلَا تَمِيلُواْ إِلَى أَصْحَابِهَا، فَتَهْلِكُواْ غَدًا وَتَخْسِرُواْ.
وَأَيْضًا أَزُورُكُمْ عِنْدَ وُصُولِكُمْ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، وَاسْتِرَاحَتِكُمْ، وَإِتْيَانِ الْمَشْرَبَةِ وَالْمَطْعَمَةِ بِإِسْرَاعٍ، وَ إِزَالَةِ التَّعَبِ بَعْدَ أَكْلِ كَبِدِ الْبَهْمُوتِ، وَزَوَالِ الشُّرُورِ، وَالْفِتْنَةِ، وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْحِقْدِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَحْبَابٌ وَ بُشْرَى وَسُرُورٌ.
وَأَزُورُكُمْ عِنْدَ اِلْتِقَاءِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَبْكَارِ وَالْحُورِ الْعِينِ، وَالْقُصُورِ، وَالسُّرُرِ الْمَرْفُوعَةِ، هُنَالِكَ تَنْجَحُ الْحَوَائِجُ. وَاعْلَمُواْ أَنِّي مُحِبُّكُمْ وَلَا أَنْسَاكُمْ حَتَّى تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ، وَتَمْكُثُواْ فِيهَا دَهْرًا، وَتَنْسَوْنِي وَرَبَّكُمْ، يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، نَجَّاكُمُ اللَّهُ، يَهْدِيكُمُ اللَّهُ.
اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
[1] أي لتؤجر نفسها كي تجد ما تطبخ لزوجها من طعام.
[2] العنكبوت الآية: 45
[3] النور الآية: 30ـ31
[4] الإسراء الآية: 71
[5] الأعراف الآية: 9
[6] الملك الآية: 7ـ8
[7] كتابة