top of page

الدين النصيحة

سيدنا عيسى صامب

اللجنة العلمية

بهذه العبارة الذهبية (إن الدين النصيحة)[1] استهلّ "سيدنا إمام الله" خطبته الأولى، مرسّخا بذلك الأحكام الإسلامية السابقة، ومطبّقا للأصول الإيمانية المتقدّمة؛ فمن قبل حصر "المصطفى" صلى الله عليه وسلم الدينَ في النصيحة، وبيّن للصحابة رضوان الله عليهم تلك العناصر الخمسة التي تكون لها النصيحة وهي (لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة الدين، ولعامّة المسلمين) في حديث رواه مسلم. وكلمة النصيحة "يعبَّر بها عن جملةٍ هي إرادة الخير للمنصوح له، فليس يمكن أن يعبَّر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تجمع معناها غيرها"[2].

 وقد قال "سيدنا إمام الله" عليه السلام في شرح النصيحة المتعلّقة بالعنصرين الأخيرين: "والنصيحة لأئمّة الدين: أن تحبهم، وتتبعهم، وأن تعينهم على أمر الدين، وتأمر الناس بذلك. والنصيحة لعامة المسلمين: أن تحبهم جميعا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن يحب المؤمنين ولا يبغض أحدا منهم)، وكما قال صلى الله عليه وسلم (حقيقة المؤمن أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه)"[3]. فتراه بذلك يشترط المحبة والتعاون وتبادل الخير والصلاح بين أفراد المجتمع اشتراطا قويا بدونه لا تقوم لدين الناس قائمة، لأن الدين النصيحة بهذا الأسلوب الحصري العجيب!

ونلاحظ أن "سيدنا إمام الله" أكثرَ في خطبه من إرشاد تلامذته إلى سلوك هذا المسلك الاجتماعي الرفيع؛ مسلكِ الإخاء والاتحاد، ومن ذلك قوله: "آمركم بأن تتألفوا، وتتعاونوا، وتتزاوروا، وتتشاوروا، وتتحابوا في الله ورسوله في كل وقت وساعة، وتتركوا الدنيا وراءكم، ولا تجعلوها أمامكم، لأنها تغرّ من أخذها بغتة"، وقوله أيضا عليه الصلاة والسلام: "أوصيكم أن تجعلوا بينكم المحبة، فإن أهل الجنة يتحابون، ولا تجعلوا بينكم العداوة والبغضاء"[4]. فعلى هذه الشاكلة كان يغرس روح التآلف والتعاون والتحابب في نفوس تلامذته بغية أن يكون مجتمعُهم مجتمعا مترابط الأجزاء، متلاحم الأعضاء، ومتماسك اللبنات.

وكما حصر "سيدنا إمام الله" الدين في النصيحة، كذلك نجده في سياق آخر يحصر الإيمان في التآلف فيقول: "اعلموا أن المؤمن آلف مألوف، ومن لا يألف الناس ولا يألفه الناس لا ينزل عليه نصر الله"[5]، فهنا يرفع التآلف إلى مستوى راق جدا يُخرج كلّ من لا يطبّقه من دائرة الإيمان، ويَحرمه حظّه من رحمة رب العالمين.

فالتوادد والمؤاخاة والتآلف والتعاون ميزة كل مجتمع فاضل؛ قال العلامة "يوسف القرضاوي": "إن أخصّ ما يميّز المجتمعَ الراقي، المجتمعَ الفاضل السعيد، هو التماسك والترابط. المجتمعُ الفاضل هو الذي يتعارف أبناؤه فلا يتناكرون، ويتعاملون فيما بينهم بالرحمة والعدل، فلا يبغي بعضهم على بعض، ولا يقسو بعضهم على بعض. فلا ينسى الواجدُ المحرومَ، ولا يُهمل القادرُ العاجزَ، ولا يأكل الكبيرُ الصغيرَ كالسمك، ولا يعدو القويُّ على الضعيفِ كسكّان الغابة"[6] .

وبهذا يكون كلُّ مجتمع بحاجة إلى ضوابط تحكم علاقاته ومعاملاته بعضه ببعض، "وهذه الضوابط لا تؤدي مهمّتها إن لم تكن ضوابط أخلاقية، مبعثها النفس ومصدرها الضمير"[7] .

إن روح التآلف والتحابب هذه التي يغرسها "سيدنا إمام الله" في نفوس تلامذته، ليست مجرّد أحاسيس تشعر بها القلوب وكفى، ولكن هذه المشاعر يجب أن تُترجَم إلى أفعال شاخصة تجْبر كلّ الكسور الاجتماعية. ولهذا نجده عليه السلام يراقب أعمال تلامذته ويغريهم بتطبيق هذا المبدأ الاجتماعي النبيل حيث يقول: "أزوركم في مشيكم وفي قعودكم، وأوصيكم بأن تكونوا مشاة للخير وجلاسا عن الشر، وكونوا صلاحا ولا تكونوا فسادا، وانظروا عيوبكم ولا تنظروا عيوب غيركم، ومن أراد أن تظهر عيوبه فلينبش عيوب غيره"[8].

بهذه العبارات الجامعة كان "سيدنا إمام الله" يحثّ تلامذته في خطبه على القيام بكل عمل ينطوي على خير المجتمع وصلاحه، والابتعاد عن كلِّما من شأنه أن يجلب الشر والفساد إليه، وأن يشتغلوا بإصلاح عيوب أنفسهم، بدلَ أن يتتبعوا عيوب غيرهم.

سيدنا عيسى صامب

اللجنة العلمية

 

 

 إرشاد عباد الله إلى الصواب من خطب سيدنا إمام الله: محمد الصغير غاي، الخطبة الأولى، ص: 5[1]

 لسان العرب: ابن منظور، مادة (نصح) نقلا عن ابن الأثير[2]

 إرشاد عباد الله إلى الصواب من خطب سيدنا إمام الله: محمد الصغير غاي، الخطبة الأولى، ص: 6[3]

 إرشاد عباد الله إلى الصواب من خطب سيدنا إمام الله: محمد الصغير غاي، الخطبة الرابعة، ص: 27 [4]

 المصدر نفسه، الخطبة الأولى، ص:6[5]

 الإيمان والحياة: يوسف القرضاوي، ص: 167-168 [6]

 المصدر نفسه، ص: 168[7]

 المصدر نفسه، الخطبة الثانية، ص: 17[8]

bottom of page