top of page

سيدنا إمام الله المهدي

إبراهيم صامب

 اللجنة العلمية

إن العالم اليوم يعيش فترة حالكة من تاريخه، فترة حيرة وأزمات ، وظلمات شديدة بعضها فوق بعض، فشلت أمامها كل المحاولات الإنسانية من الشيوعية والرأسمالية والليبرالية وغيرها. فأصبح الإنسان خائب الأمل في مستقبله وفي مصير العالم. ناسيا بشرى الرسول بمنقذ الأمة، بمن يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا. فيجدر التذكر بهذه الشخصية العظيمة وبتعاليمه التي نحل بها ما يعيش العالم من أزمات ومشاكل. ففي هذه السطور سنحاول التعرف على هذه الشخصية البارزة وعلى البيئة التي عاش فيها وعلى بعض الحلول الذهبية التي يمكن أن نخرجها من تعاليمه.

عالم ظلم وجور

لقد ظهر إمام الله المهدي في بيئة مظلمة، كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، يملأها الظلم والجور والفساد من كل نواحيها.

فمن الناحية السياسية، طغى عليها النظام القبلي من جهة، ذلك النظام الذي كان يحكمه ملوك طغاة في أغلب الأحيان يستخدمون الرعية في أعمالهم الشاقة وللدفاع عن أنفسهم. ويظلمونها في أخذ أراضيها، ونهب أموالها، وفرض جزيات كبيرة عليها، علاوة على ما كانت تشهد الرعية من القتل والبيع وما إلى ذلك.

ومن جهة أخرى النظام الاستعماري الذي كان نظاما استعباديا بحتا، حاول السيطرة على إفريقيا ، واستغلال أراضيها وأيديها العاملة ظلما وجورا. كما حاول المستعمرون تجريد إفريقيا من قيمها وحضارتها، وإحلال حضارتهم ودياناتهم محلها. وعلى هذا الأساس، حاولوا خنق الإسلام الذي كان يمثل، في رأيهم، العرقلة الأساسية التي قامت دون تحقيق أهدافهم. ومن ثمّ قال أحد حكامهم "روم" :"إنه الواجب على عواتقنا أن نسهر كي لا تكون أبدا العقيدة التي تدعو إليها الجماعات الإسلامية خطرا على تحقيق الحضارة الكبيرة التي نتبعها".

فعلا، قد قاموا بتلك المهمة فبذلوا جهودا جبارة لتضييق نفوذ الإسلام في البلاد، واستعملوا في ذلك وسائل متباينة منها القرارات الصارمة التي أخذوها ضد المدارس القرآنية في سنة 1857م، بالإضافة إلى الاضطهادات الكثيرة التي كان يشهدها رواد الحركة الإسلامية الذين حاولوا مقاومة الغزو الفكري، والدفاع عن القيم الإسلامية.

وإلى جانب ذلك حاول المستعمرون نشر الديانة المسيحية عن طريق حركة التبشير، فكان لكل ذلك أبعد أثر في الحياة الدينية.

ومن الناحية الدينية، كانت الديانة التقليدية الوثنية، التي عرفتها السنغال قبل دخول الإسلام سائدة في بعض المناطق " منهم إحيائيون ومن يؤمن بالسحر والشعوذة ومن كان يعبد النار والنصب والأصنام ويعتقد في تأثيرها في حياته العامة والخاصة"[1].

وإلى جانب ذلك، كان هناك مسلمون حديثو العهد بالإسلام لا يزالون يتمسكون بالوثنية والتقاليد السيئة التي اختلطت بالإسلام حتى صارت جزءا منه لا يتجزأ ، يمارسها المسلمون كما يمارسون شعائرهم الإسلامية. وذلك ما يسميه بعض الباحثين بـ "الإسلام المحلي"، أو "الإسلام الأسود" ، أو " الإسلام المؤفرق"[2].

فعلا، كما يقول الدكتور عامر صمب:" قد صارت شعائر الإسلام مشوبة بشعائر ما بقي من الوثنية القديمة  فتغيرت. فكدر صفوها حتى لا تعرف أو كادت"[3].

وقد كان التمازج يظهر في نواحي كثيرة منها:

  • إيمانهم بالأرواح الوهمية والجان المحافظة؛

  • تعلقهم بالكهان والسحرة، ولجوءهم إليهم في قضاء حاجاتهم، وتحسين أحوالهم؛

  • تشاؤمهم ببعض الحيوانات المباحة، وبعض الأيام والشهور؛

  • الاحتفال ببعض المناسبات الدينية كالعاشوراء والمأتم والاستسقاء بصور تقليدية.

وفي ذلك يقول شيخ تيجان جين في قبيلة ليبو :" فقبيلة ليبو، رغم كونها قبيلة وثيقة الصلة بالإسلام، حاولت إيجاد تحالف بين الشعائر القديمة والدين الإسلامي. وتظهر هذه الثنائية في الدور الذي خصص لكل واحد من الجنسين. فإذا كان الرجال يهتمون بشعائر الدين، فالنساء من جهتهن تهتمين بالطقوس في المذابح، وتنظيم حفلات لتأبين الجان المحافظة على القرية وسكانها"[4].

هكذا كانت حالة الإسلام في تلك الفترة، فكان في حاجة إلى من يصفيه من الكدر، ويخلصه من البدع والعادات السيئة، وخاصة مع وجود الدين المسيحي الذي كان ينافسه ويحاول بسط نفوذه في البلاد بمساعدة المستعمرين.

ومن الناحية الاجتماعية، كانت الطبقات الاجتماعية ظاهرة اجتماعية عريقة. فقبيلة ولوف مثلا متألفة من طبقة "الأحرار" (guer)  وهم الأشراف وزعماء الدين والفلاحون، وطبقة أصحاب الفرق (gneegno) وهم الحدادون والقوالون، ثم طبقة الرق التي لم تعد موجودة اليوم.

وهذا هو شأن القبائل الأخرى؛ ففي قبيلة تكلور نجد "طوروب" كطبقة الأشراف وأهل القلم، وطبقة الفلاحين والصيادين، وأخيرا طبقة أهل الحرف والمهن[5].

        و كانت هذه الطبقات تحدث غالبا نوعا من التميز العنصري داخل القبيلة، ويظهر ذلك في العلاقات الاجتماعية؛ فترفض فئة الأحرار مثلا مصاهرة أصحاب المهن بدعوى أنها أعلى منهم نسبا ومكانة "وقد يكون لهؤلاء ثروات كبيرة وشهرة عظيمة من مهنتهم هذه، ولكن مهما بلغت مكانتهم الاجتماعية فالناس (الذين ليسوا من قبيلتهم) لا يصاهرونهم."[6]

وكان ذلك يحدث نوعا من التنافس والتباغض بين هذه الطبقات، ويحول دون تحقق الانسجام الذي تدعو إليه الحياة الاجتماعية. وقد يتجاوز التنافس حدود القبيلة إلى ما بين القبائل ويحدث نوعا من الاحتياط والتحفظ  في العلاقات القائمة بينها.

كان ذلك جزءا من الآفات الاجتماعية آنذاك، وقد أثرت كل ذلك في الأخلاق.

الأخلاق السائدة في المجتمع: كان الفساد منتشرا في المجتمع السنغالي بصفة عامة؛ فكان الناس يهتكون حرمة الدين، وشاعت الأخلاق الذميمة كالنميمة والتجسس والبخل وقطع الرحم وشهادة الزور وغيرها؛ كما انتشرت الحرف المتنافية مع روح الشريعة الإسلامية كالسحر والسرقة والغناء والتسول وما إلى ذلك.

أضف إلى ذلك انحراف رجال العلم الذين كانوا مقبلين على الدنيا، يفتون الناس بغير علم حتى " كان منهم من يزين الخطأ للملوك ويجد المخرج لكل مخالفة، فكانوا بطانة سوء من أجل مصلحتهم وما يعود عليهم من منافع"[7].

ومن جهة أخرى، شاع الجهل في العامة في أمور دينهم "فكان منهم أيضا قوم يؤدون صلاتهم بالتيمم فلا يتوضأون إلا نادرا، ولا يغتسلون من الجنابة إلا نادرا؛ ومنهم من يؤدي زكاته من أجل مصالحه في الدنيا، ومن يعبد الأصنام ويذبح لها، ولا يصوم نساؤهم ولا يصلين إلا إذا كبرن، ومنهم من توحيدهم باللسان ولا يعرفون حقيقة التوحيد"[8]

حقا، لم يكونوا يعرفون معنى التوحيد، ولذا لجأوا إلى آلهة أخرى، ومارسوا شعائر تقليدية كانت تتنافى مع روح التوحيد. ومن ذلك ما كان شائعا في قبيلة ليبو من إيمان بالجان على أنها المحافظة على سلام القرية وصحة أفرادها. فقد كان لكل قرية جنّ يسهر على أمنها ويحمي سكانها؛ فكان "لك داور" leuk Daour  اسم جن دكار، و"مام جاري" Mame Diare  اسم الجن المحافظ على يوف، و"مام كمب لامباي" Mame Coumba Lambaye  في رُوفِيسْك، وهكذا دواليك.

        والعجيب من الأمر أنهم ينظمون حفلات عظيمة في كل سنة لتعظيم الجان ناسين الحي القيوم الذي لا حول ولا قوة إلا به. وكانت تلك الحفلات تتم بذبح القرابين للجن وإرهاق الدم على الأنصاب، بالإضافة لإلى حلقات الغناء والرقص طول الأسبوع.[9]

وقد كانوا أيضا يطلبون الشفاء من هذه الجان في حلقات تسمى "اندب" وهو شفاء خاص للأمراض العقلية، وكان يتم بالغناء والرقص وذبح القرابين، ثم إقامة النصب والأزلام التي تكون موضع اتصال المريض بالجان فيما بعد، ويصب عليها الحليب واللبن يوميا أو أسبوعيا لإرضاء الجان.

فالسؤال إلي يطرح نفسه هو هل يمكن أن يدعى هؤلاء مسلمين؟ فهم وإن كانوا مسلمين كان إسلامهم مجرد اسم حيث كانوا يجهلون حقيقة الإسلام، وحقيقة الرسالة المحمدية التي كانت تسعى إلى غرس التوحيد الخالص، والمثل العليا في النفوس والقلوب.

فعلا، قد كان الدين في مسيس الحاجة إلى من يحدده ويرد الأمة الإسلامية إلى الصراط القويم. فلا غرو إذا ظهر إمام المهدي في هذه البيئة الظلماء ليرد للدين صورته الأولى، ويجرده من البدع والخرافات التي كانت تفسد سمعته، وتشوه صورته.

وفي ذلك يقول الشاعر لباس غاي:

لقد بكى الديـــن والقــرآن والسنن       شـوقا ولهـفا إلى إصلاحـك الكبــر

لأنه كـــان مــملــوءا مــن البــدع      وكـــل مـفــض إلى الآثـــام الكـفــر

فأصبـح الدين فوضى لا مثيل لها       بكى على حاله مــن كان ذا بصــر

نــأى البريــة عن شرع الإله إلى       شريعة النفس والشيطان ذي المكر

فأشــركوا الله بالأزلام والنـصب        كأهـــل مكــة قبــل الدعـوة الخطر

في هذه الحالة الظلماء جاء لنـــا       مجدد الديــــن مع ســلاحه الكبـــر

فــقــــــام داعيـــة لله خــالقــنــــا       يقــول يا نــاس إني مهــدي البشــر

هذه البيئة هي التي وجدها الإمام المهدي في السنغال وفي العالم ، فدعا إلى التوحيد الخالص لتخليص الدين من شوائبها،  وإرجاع البشرية إلى المكانة التي الرفيعة التي خصصها لها المولى سبحانه. فمن هو الإمام المهدي؟

ولادته وطفولته:

هو إمام الله بن الحسن اتياو وكمب اندوي، ولد في يُوفْ عام 1261 هـ موافق 1843م (أو 1844 حسب البعض)[10]. فسماه أبوه بإمام الله المهدي الذي كان شيخا كبيرا في "أُورُو مَادِي".

ولا نعرف كثيرا من طفولته إلا ما يذكره الشيخ مختار لو في كتابه "بشرى المحبين وتيقيظ الجاهلين" من غرائب كانت بشارة الرجل العظيم الذي سيصبحه، كبكائه عند وطأة النجاسة، وتحقق رؤياه وغير ذلك من العجائب والإرهاصات[11].

ومما لا شك فيه أن إمام الله لم يتلق أي نوع من التعليم، بل ظل في بيت والده أميّا لا يعرف القراءة ولا الكتابة. فكان مضطرا إلى أن يخرج للتكسب ليعيش من عرق جبينه. ولذا كان يرافق قومه حينا في أسفارهم نحو "اندر" و"بانجول" في غامبيا، وحينا يذهب إلى البحر للصيد، وحينا آخر يتوجه إلى البساتين للزراعة. وقد مكث في ذلك فترة طويلة يأكل من عمل يده، ويساعد منه الفقراء والمساكين.

وقد كان إمام الله قدوة حسنة، ومثالا حيّا بين أترابه في تلك الفترة " فكان أنشط أمثاله وأشجعهم في الفتنة، وأعدلهم، وكان يطبخ لهم، ويعينهم على كل أمر، ويؤمهم في الصلوات. وكلما أمرهم به إن فعلوه لا يرون إلا خيرا"[12].

        وكان إلى جانب ذلك سخيا جوادا إلى أبعد ما تحمل الكلمة من معنى، فكان يقسم نصيبه من الحوت، بعد خروجه من البحر، إلى الناس فلا يترك شيئا لأسرته اللهم إلا بحضور أحد أعضائها، وهكذا كان يفعل عند حصاده في الزرع.

وكان أيضا عابدا مخلصا للعبادة، وكان أيضا مستجاب الدعوة يدعو لقومه عند الحاجة وفي حالات المرض.

هكذا عاش مع قومه كإنسان مثالي وقدوة حسنة حتى بلغ أربعين سنة فألقى دعوته الخالدة.

دعوته:

في سنة 1882م طلع في السماء نجم ذوذنب في المشرق، فلما رآه إمام الله قال لابن خاله داود اندوي "إن شاء الله في هذه السنة يأتي فيها أمر عظيم". وبعد ذلك رأى في المنام موت امرأة صالحة. فكان الأمر كما رأى، ولم تكن تلك المرأة الصالحة إلا والدته الزكية مام كمب اندوي التي توفيت بعد ذلك بأيام في يوم الأربعاء 27 رجب 1301 هـ. وكان لهذا الحدث المؤلم علاقة وطيدة بدعوته إذ كف إمام الله عن الأكل والشرب، ولازم الصمت وذكر الله سبحانه وتعالى ليلا ونهارا. فتحير قومه من أمره وظنوا أنه جُنَّ بسبب مس من الجان، وطلبوا من خاله مداواته بأوثانهم كما كانت العادة عندهم. ولما جاءه خاله قال له إمام الله " إن قومي لا يعرفونني، ولا يعرف أمري غير ربي..."[13].

وفي يوم الأحد 1 شعبان 1301 هـ موافق سنة 1883 م(أو 1884 حسب البعض)، خرج إمام الله على قومه بأمر من ربه يدعوهم إلى التوحيد الخالص لله، والابتعاد عن كل البدع والشبهات التي كانت تشوه صورة الإسلام. فكانت غايته النبيلة إحياء الدين الإسلامي، وإرجاعه إلى صورته الأولى كما تركه النبي عليه السلام لأن معظم قومه " كانوا يعبدون الأوثان، ولا يميزون بين الخبيث والحسن، ولا يفرقون بين الحلال والحرام، وكانوا يخشون أصحاب الأوثان كخشية الله أو أشد خشية، وكانوا يتداوون بها إذا مرض أحدهم أو نزل به ما يخاف على نفسه"[14].

وعلى هذا الأساس قام إمام الله بدعوتهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت؛ وكان أكبر سلاحه في ذلك كلمة التوحيد لا إله إلا الله بمعانيها.

وقد أيده الله بما كان يؤيد به رسله وأولياءه من معجزات وكرامات، والتي تشكل دليلا قاطعا على صدق أقوالهم، وثبوت دعواتهم/ كما قال ابن عاشر في توحيده:

ولو لم يكونوا صادقين للزم          أن يكذب الإله في تصديقهم[15]

إذ معجزاتهم كقـوله ـ وبرـ           صدّق هذا العبد في كل خبر

أمام مناقب إمام الله – فيما يقول الشيخ مختار لو ـ لا تعد ولا تحصى؛ ومن أشهرها[16]:

  • وجود طيب أطيب من المسك في داره وسبحته، وسبحات تلاميذه؛

  • شفاؤه للأمراض الفتاكة، ومس الجن بلمسة يده الكريمة، أو نفخه أو دعائه؛

  • إيقافه رجلا أميا لا يعرف القراءة، فيخبر أخبار الأولين، أو يتلو القرآن الكريم حتى إذا شاء أسكته فيعود كأن لم يعلم شيئا؛

  • إخباره بما يأتي بعده وما كان قبله من الغيبيات مثل قوله بأن نجله سيدنا عيسى سيحلفه في الدعوة وكان عمر سيدنا عيسى آنذاك حوالى 9 سنوات، وكذلك قوله بأن شرق الشرق سيأتي في مكان دعوته وغرب الغرب وكان ذلك قبل تحويل العاصمة إلى دكار واليوم حدث كل ذلك ؛

  • منع ماء البحر من الإتيان إلى ديار قومه: بعدما شكا إليه تلاميذه إتيان البحر إلى ديارهم ذهب معهم إلى البحر، وخط خطا برجله وقال لهم إن شاء الله لا يجاوز البحر خطي بعد يومكم هذا، وقال "أنتم لا تعرفوني ولكن البحر يعرفني ويعرف قدري عند بي"

ولكني أرى أعجب عجائبه في تمكنه ـ رغم كونه أمياـ من تزكية قلوب كانت من قبل أشد تعلقا بأهوائها وأوثانها، حتى صارت قلوبا صافية زكية لا ترتاح إلا للعبادة والتوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى.

ويجدر بالذكر أن تصفية النفوس هي الغاية التي تريدها جميع الطرق الصوفية، وهي التي أدت إلى نشأة التصوف نفسه، ولكن قلّ ما يصل إليها الإنسان لبعد الطريق وكثرة العقبات؛ ولكن أوصل إمام الله كثيرا من تلاميذه حتى صاروا أسوات حسنة ومصابيح مضيئة في الغرب بواسطة مناهجه المميزة.  فكان حقا له أن يردد قول الرسول " أصحابي كالنجوم بأي اقتديتم اهتديتم".

هذا، ولم يكن لإمام الله بعد دعوته هم " غير ذكر ربه، والصلاة وإعطاء المال وإطعام الطعام، وإغاثه المؤمنين، وإغاثة الفقراء كالعجائز والمساكين  وغيرهم سواء في ذلك الأحباب والبغضاء والحساد"

وقد أدت هذه الصفات النبيلة إلى تلبية كثير من المسلمين لدعوته، واعتناقهم طريقته. فبدات الطريقة في الانتشار في دكار وضواحيها؛ وبدأت الوفود تأتي من أنحاء البلاد كلها متتبعة النور الذي كان يتلألأ في الغرب. وكان من بينهم علماء ذائعو الصيت في العلم والتقوى وتركوا ديارهم وكتاتيبهم لتلبية دعوة إمام الله، ومن أشهرهم:

تفسير عبد  الله غاي، تفسير مختار لو ، أبوبكر سيلا، فسير عبد الله جالوا، تفسير دكي واد، وتفسير جبريل غاي .

وقد كانت تلك الدعوة تمثل أكبر تحدٍّ على معتقدات قومه وعاداتهم، مما أغرى الضغينة والحسد في قلوبهم، فشرعوا في معاداته والوشي به لدى السلطات الاستعمارية. فكان ذلك نقطة انطلاق للمحن والاضطهادات التي شهدها بعد ثلاثة أعوام من دعوته.

اضطهادات إمام الله من طرف السلطات الاستعمارية:

بعد انتشار الدعوة وكثرة أتباع إمام الله وشى به أعداؤه لدى السلطات الاستعمارية، وقالوا :"إن إمام الله كثر أتباعه. وقال: إنه المهدي الذي سيزيل ملككم، وله سيوف ومدافع ورماخ يدخرها في داره"[17].

وقد آمن المستعمرون بهذا الخبر وحاولوا إزالة دعوته وتفريق أتباعه. ولا غرو في ذلك، إذ كانت الحركة الصوفية ألدّ عدو، وأشد مقاوم ضد سير الاستعمار الفرنسي و"مشروعه الحضاري".

ولما وصل خبر مكائد المستعمرين إلى إمام الله المهدي قال لأصحابه :" من جاءني وأراد أن يأخذني، أو أراد أن يقتلني بينكم، لا تقولوا له شيئا؛ وأنا كفيت بربي، ولا أستعين بغيره"[18].

وهذا ما يدل على إيمانه الشديد بربه، وحق توكله عليه؛ ولربما قال ذلك أيضا لمنع حروب أخوية دامية؛ ففضل استخدام أسلوب التسامح والتعايش السلمي معهم. وقد صرح ذلك في خطبه حيث أشار إلى أنه لم يأمر تلاميذه بحمل الأسلحة للجهاد، ولكن أمرهم بالجهاد الأكبر وهو جهاد النفس[19].

وعلى كل حال حاول المستعمرون إلقاء القبض على إمام الله، فلم يفلحوا في المرة الأولى ، ثم رجعوا لاستعداد محاولة ثانية، وفي هذه الفترة جاءه عمه ورؤساء قومه لينصحوه تفريق أتباعه، ليصلحوا بينه وبين السلطات الاستعمارية، فرفض إمام الله ذلك رفضا باتا، وقال لهم "إن الله نصبني هنا لأدعو الجن والإنس، ولا يزيل ذلك أحد من الخلق" ثم أخذ بيد ابنه سيدنا عيسى روح الله، وقال :"إني علمت أني أموت إن جاء أجلي، ولكن إن مت ولم يتم ما أمرني به ربي سيتمه هذا الغلام" وكان عمر سيدنا عيسى آنذاك ثمان أو تسع سنوات".[20]

وبعد ذلك خرج إمام الله من يوف مع بعض أتباعه في الليلة العاشرة أو الحادية عشرة من سبتمبر 1887م، وذهب إلى قرية "ملكا" وهي قرية من ضواحي دكار في الساحل البحر. وهناك مكث ثلاثة أيام في مكان منخفض قرب ساحل البحر، سمي في بعد بـ انغيجغا Nguediaga وهو اسم الشجرة التي نبتت هناك

في تلك الفترة كانت السلطات الاستعمارية في حيرة كبير، وجمعت فئات كثيرة من الجند مع بعض من قومه في طلب إمام الله. وفي اليوم الثالث من اختفائه خرج إليهم فأسروه مع صاحبه تفسير عبد الله جالوا وأرسلا إلى القاضي في جزيرة "غوري" وكانت تسمى "بِيرْ" سابقا، ولم يجد القاضي عنده شيئا من التهم الموجهة إليه لا ثروات ولا أسلحة.

وبعد ذلك أدخلوه في السجن فحدث هناك عجائب، حيث هبت رياح شديدة تهدم البناء؛ مما دفعهم إلى إخراجه من السجن إلى ربع واسع، وخصصوا له طباخة تطبخ له، ثم استفتوا أحد الرهبان في أمره فطلب منهم إطلاق سراحه لما رأى من أمره من غرائب؛ ولكن إمام الله رفض العودة إلى قريته إلا مع صاحبه عبد الله جالوا مما أبقاه في غوري ثلاثة أشهر موافقا لما كان يردد "ثلاث سنوات" وثلاثة أيام ، وثلاثة أشهر" ويعني ذلك أن المحن تبدأ في السنة الثالثة بعد الدعوة، ثم يختفي ثلاثة أيام، وينفى لمدة ثلاثة أشهر.[21]

ومن الجدير بالذكر أن تلاميذه لم يتفرقوا في تلك الفترة، بل ظلوا متمسكين بدينهم، وبتعاليم إمام الله لما غرس فيهم من الإيمان القوي بالله والتوكل عليه؛ ولأنهم كانوا موقنين برجوعه إليهم لإكمال دعوته.

أما ما يذكره المستعمرون في سبب تحريره، هو عدم وجود أسلحة عنده وإخلاصه في دعوته. يقول القاضي في تقريره :"إن هذا الشيخ يعلم خشية الله، وطاعة الوالدين والشيوخ، والأمانة في الحياة الزوجية..."[22]

 وبعد هذه المحن، عاد إمام الله إلى تلاميذه لمواصلة دعوته وسعيه لإصلاح الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن المستعمرين ما زالوا يتهمون تلاميذه بالتهم الكاذبة، ويسجنونهم بدون محاكمة.

وقد طلب مُحاكم دكار آنذاك باترصون Patterson  نفي إمام الله خارج الأراضي السنغالية سنة 1890م، ولكن ظلت نيته بدون جدوى لسبب نجهله حتى الآن.[23]

ومن الملاحظ أن جميع الذين حاولوا عرقلة دعوة إمام الله من السلطات الاستعمارية قد عزلوا عن مناصبهم، أو أرسلوا إلى أماكن بعيدة عن الأراضي الإفريقية[24].

ومن هنا يمكن القول بأن المستعمرين لم ينجحوا في عرقلة دعوة إمام الله ، ومنع طريقته في الانتشار؛ لأن الطريقة انتشرت في دكار وضواحيها ، فأسس إمام الله قرى جديدة كقرية كمبرين Camberene  وقرية ملكا Malika وغيرهما، كما انتشرت الطريقة داخل البلد في إقليم اندر Saint Louis  واتياس Thies وغيرهما. فكان الأمر كما قال تعالى :"يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكفرون" (التوبة: آية 32)

وقد كان إمام الله منارا كبيرا في الغرب يهتدي به البشر، وقد نجح أكبر نجاح في تربية تلاميذه، وتقويم سلوكهم. فلا يخفى على أحد اليوم جهوده الجبارة في سبيل إصلاح تلاميذه، وتجريدهم من العادات السيئة، حتى صاروا مثلا عليا في الهداية  يتميزون حتى اليوم بحسن الخلق والعبادة الخالصة.

بعض إصلاحات إمام الله المهدي

لقد كان إمام الله بعد أن كان مهديا من ربه هاديا إلى الصراط المستقيم، ومصلحا اجتماعيا كبيرا، وكان أكبر إصلاحاته يرتكز فيما يلي:

التربية:

لقد أولى إمام الله للتربية بأنواعها اهتماما بالغا في حركته الإصلاحية؛ إذ هي أساس كل صلاح وهداية ، ولذا بدأ بالطفل في البيت فأوصى أصحابه بتربية العيال في البيت وتسمية الأولاد أسماء الصاحين وتعليمهم ، فقال :"أوصيكم بالعيال كلكم راع ، وكل راع مسئول عن رعيته" وألح في هذه المسئولية العظيمة التي يؤدي التنازل عنه إلى العقاب والهلاك ؛ فذكر قصة من يجره أولاده يوم القيامة بين يدي الله يقولون له :"يا ربنا خذ حقنا من والدنا هذا، لم يسمنا من أسماء الصالحين، ولم يؤدبنا، ولم يعلمنا شيئا من كتاب الله، ولم ينهنا عما نهى الله عنه، ولم يأمرنا بما أمر الله به، بل تركنا نفعل ما نشاء من القبيح"[25].

فبمجرد قيام الوالدين بمسئوليتهم تلك، نصل إلى إيجاد مجتمع رشيد في المستقبل إذ يتلقى الطفل قبل خروجه إليه تربية صالحة، ويكتسب خصالا نبيلة مع علوم نافعة تزينها آداب حسنة.

وقد أمر أصحابه بختان الأولاد صغارا ليتمكنون من المساهمة في الحياة الدينية والاجتماعية مبكرين، وليحارب تلك العادات السيئة التي كانت تجرى في تلك المناسبات من رقص واختلاط وغناء.

وإلى جانب ذلك طلب منهم تزويج البنات في تلك المرحلة؛ ولهذه الوصية أهمية قصوى في التربية، لأن البنات يمثلن أهم جزء من المجتمع، وفي إعدادهن صلاح المجتمع كله ، كما قال أحمد شوقي[26]:

الأم مـدرسـة إن أعددتهاأعـددت شعبا طيب الأعراق

مما لا يدع مجالا للشك أن فساد المرأة يظهر غالبا في سن المراهقة، عند كونها عازبة " حرة" تسعى وراء شهواتها، وتعرض نفسها في سوق الزواج. وكثيرا ما تدفعها الرغبة في الزواج إلى التبرج وإظهار مفاتنها لجلب الأنظار إليها مع كل ما يتبع ذلك من حلول الزنا والسفاح وانتشار الأمراض البدنية والقلبية.

وربما ذلك ما دفع إمام الله إلى أن يأمر تلاميذه بتزويج البنات صغارا لينجين من عواقب العزوبة، وليتمكن الوالد مراقبتهن، وتقييد حريتهن في سلوكهن ولباسهن

وترددهن وغيرها.

فبهذا يعد الطفل اللهيني في أسرته ، فيكون بذلك مهيئا ومحصنا للدخول في الحياة الاجتماعية بدون خطر.

وعلى هذا الأساس، أدمج إمام الله المرأة والطفل في الحياة الاجتماعية الدينية، على خلاف ما كان يحدث قبل دعوته من اعتقاد عبادة المرأة طيرا والطفل خطرا على حياته، فلما جاء سوى في العبادة بين الذكور والإناث والكبار والصغار، وقال :" واعلموا أن الدين سواء فيه الصغير والكبير، والرجال والنساء"[27]

  ولذا خصص إمام الله للنساء مكانا في المسجد يصلين فيه وراء الرجال. ولم يكن ذلك موجودا في البلاد في تلك الفترة، ولكن اليوم لا ترى مسجدا إلا وفيه مكان خاص للمرأة. فكان ذلك أكبر مساهمة في المساواة الحقيقية بين الجنسين.

وإلى جانب ذلك قام إمام الله بإزالة الخلق السيئة التي كانت سائدة في المجتمع ، والتي ترجع إلى حب الدنيا وما فيها، فقال :" ومن يريد أن يكون ذا تبع لي فليترك الدنيا وما فيها"[28] فجعل أول شرط للدخول في طريقته التجافي عن متاع الحياة الدنيا وزينتها. وهذه النزعة الزهدية نجدها في جميع خطبه ووصاياه . قال في موضع آخر :" ولا تكاثروا مال الدنيا بل تكاثروا خير الآخرة هو الذي يورث النعم المؤبدة والدرجة الرفيعة، ولا تحرصوا على الدنيا لأنها، جيفة والجيفة لا يأكلها إلا الكلاب والنشور، فاتركوها لأنها دار خراب زوّال وزوالها قريب..."[29]

ولو تحرينا الدقة في هذا القول الوجيز لوجدناه حلا لأكبر مشكلات المجتمع، فجميع الآفات الاجتماعية – أو على الأقل أكثرها ـ يرجع إلى ميل الناس الدنيا على حساب الآخرة. باعوا دينهم بغرض من دنياهم، فلم يراعوا في أموالهم الحلال ولا الحرام، ولم يراعوا في أعمالهم وأقوالهم المعروف ولا المنكر. فكل همهم يرتكز على الدنيا والوصول إليها بكل وسيلة؛ فلسفتهم في ذلك "الأهداف تبرر الوسائل؛ ولذا انتشرت الرشوة فيهم والسرقة والاختلاس والكذب والخداع والوشي والنميمة والقتل وأكل أموال الناس بالباطل وما إلى ذلك؛ وأصبحوا يتآكلون كالحيتان في البحر من أجل متاع الحياة الدنيا، متاع الغرور.

هذه هي الحالة المؤسفة التي يعيشها العالم اليوم، ولو عملوا بوصايا إمام الله المهدي لأنقذهم منها كما أبعد أسلاف أتباعه عن ذلك كله.

وقد كان يحثهم كل يوم عن اجتناب الرذائل قائلا :"وأوصيكم بترك الغيبة والنميمة، والكذب، والخيانة، والحكاية الكثيرة لغير محبكم، والحسد، والبغض، والكبر، والعجب، وأخلصوا لله العمل"[30] أليس هذا أمراض المجتمع اليوم؟

وقد أعطى إمام الله تلاميذه ما يستعينون به للتجرد من تلك الآفات ، والتقرب إلى المولى وهو كثرة ذكر الله في كل لحظة. وفي ذلك يقول :" ولا تغفلوا عن ذكر الله حيث كنتم فإنه يذهب السيئات ويكثر الحسنا ت (...) واذكروا الله في كل مكان لأن الأماكن تشهدكم يوم القيامة"[31]

وعلى هذا الأساس جعل إمام الله ذكر الله شعار طريقته، وأعطاه الله أفضل الذكر لا إله إلا الله نظموها في كل الأوزان والبحور و يرددونها في كل زمان ومكان، قبل الصلاة وبعدها ، عند العمل، عند تشييع الموتى، وفي المناسبات الاجتماعية والدينية الأخرى ، فسمو بالولفية "بوالايين" أي أهل الله  كثرة تريددهم كلمة لا إله إلا الله؛ وقد نالوا بواستطها  خلاصا ووقارا، ومراتب..

ومن الجدير بالذكر أن إمام الله كان مثالا حيا لكل ما يأمر به تلاميذه وأول مطبق له، كما قال :" كلما أمرتكم به من العمل الصالح البدني، والقول الصالح اللساني إن شاء الله أكون أمامكم ولا تبلغونني فيه، فانظروا إلى واقتدوني في فعلي وقولي إن وفيتم أدخلكم طريقة النجاة "[32].

وإلى جانب هذا الصلاح الفردي أصلح المعاملات بين الأتباع، لخلق التوازن والمساهمة في تعمير الأرض.

التكافل الاجتماعي:

إن أول ما أشار إليه إمام الله المهدي من الناحية الاجتماعية هو التكافل والتعاون الاجتماعيين، وأكد ضرورتهما وكونهما مصدر رحمة الله ولطفه على عباده ، فقال :" اعلموا أيها المؤمنون أن المؤمن ألف مألوف عليه ومن لا يألف على الناس ولا يألف الناس عليه لا ينزل نصر الله عليه"[33] فالإنسان كائن اجتماعي يضطر إلى مخالطة الآخرين والتمازج بهم ومعاملتهم، فيربط بينهم علاقات مباشرة وغير مباشرة، ولكن مهما يكن من أمر يجب أن تقوم هذه العلاقات على أساس المحبة والتعاون والتماسك والإيثار ، كما أوصى بذلك إمام الله المهدي حيث قال :"وآمركم أيضا بأن تتآلفوا وتتعاونوا وتتزاوروا وتتشاوروا وتتحابوا في الله ورسوله في كل وقت وساعة"[34] وهذا ما يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عن أنس " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه  ما يحب لنفسه"[35].

فإذا أردنا إيجاد مجتمع صالح مثالي لا بد أن نتحابب ونتعاون ونتساتر، وأن ينشغل كل واحد بإصلاح عيوبه دون الالتفات إلى عيوب الآخرين، ونحسن الظن في إخواننا وجيراننا، وأن نبتعد عن كل ما من شأنه خلق اختلاف أو تشاجر فيما بيننا لتحقيق الوحدة التامة كما دعا إلى ذلك المولى سبحانه وتعالى في قوله :(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) سورة آل عمران : الآية 107.

وعلى هذا الأساس جعل إمام الله المهدي أكبر همه توحيد المسلمين، واستئصال جميع مصادر الخلاف والتفرق في الحياة الدينية الاجتماعية.

التسامح واللاعنف

أوصى إمام الله المهدي أتباعه بالابتعاد عن كل ما من شأنه خلق خلاف بين المسلمين أو تنازع، وقد تجلى ذلك في علاقاته مع المستعمرون كما سبق الإشارة إلى ذلك، وكذلك في تخاصم صغير حدث بين تلاميذه وأتباع الشيخ أحمد بمب في قرية "انكاخم"  حيث أرسل إليهم خطبة وقال فيها :"  سمعت أن بعضهم يتخاصمون مع أصحابكم الذين كانوا من تلاميذ الشيخ أحمد بمب وغيرهم. وهو وأنتم مسلمون، فواجب عليكم أن تكونوا إخوانا؛ والمؤمنون كلهم إخوة، وليس في الإسلام عداوة وبغضاء. واعلموا أن الدين النصيحة والمحبة والتعاون، ومنع في الدين الجدال والمراء، ومنع في الدين التسافل والتعايب والتنازع والتنابز. ولا تنازعوا إلا إلى الهدى والتقوى؛ وكلكم فليأخذ بسيده وملاذه، ويعمل بما أمر به، ويقتديه في خلقه، ولا تجعلوا الدنيا أمامكم، واتركوها وراء ظهوركم"[36]

وبهذا تمكن من إبعاد الفتنة التي كادت تدخل في صفوف المسلمين وتفرقهم في أمور يجب أن تكون مصدر تحالف، لا مصدر خلاف.

زيادة على ذلك، أمر إمام الله المهدي أتباعه بالابتعاد عن التنازع والتخاصم، والسعي إلى توطيد عرى الأخوة والوحدة بين المسلمين، ودعاهم إلى تسامح يفوق دعاوى التسامح واللاعنف المشهورة في العالم؛ فقال لهم :" إذا لقيتم ظالما فقطع سبحة أحدكم فلا يلتفت إليه، بل فلتكن همته فيأخذ سبحته، فإن منعه عن ذلك فليذهب إلى حال سبيله، وذلك خير من المخاصمة والمقاتلة والمشاتمة"[37].

فيا حبذا لو جعل المسلمون بذلك، لعاشوا فيما بينهم حياة هادئة مطمئنة مهما تباينت مذاهبهم، واختلفت طرقهم، ولتعايشوا مع الآخرين بصفة سليمة في هذا العصر يقتل فيه المسلمون في إفريقيا الوسطى ، والذي يُدعى فيه إلى الحوار بين الأديان وخاصة الحوار الإسلامي المسيحي.

مكافحة الطبقات الاجتماعية:

أوصى إمام الله المهدي أتباعه بإلغاء الكنايات لتوحيد المسلمين من جهة، ولمكافحة الخصومات والمقاتلات بين الطبقات الاجتماعية بصفة عامة، وبين القبائل بصفة خاصة من جهة أخرى. يقول الإمام محمد الصغير غاي في ذلك:" وعلى أن يكون المسلمين في الاتحاد أمر الإمام المهدي عليه السلام بإلغاء الكنايات التي توجب الكبر والاحتقار"[38].

فعلا، قد كانت هذه الكنايات والألقاب تحدث نوعا من الازدراء والاحتقار بين الطبقات، وبين القبائل. فكانت منها ألقاب تدعي أصحابها التعالي على الآخرين في النسب والمنصب، وينظرون إليهم بعين الازدراء والاحتقار. كما كان اللقب يكشف الطبقة الاجتماعية للفرد فيعكس ذلك على العلاقات الاجتماعية بالمنافسة، والمفاخرة، ورفض المصاهرة والتصالح وما إلى ذلك.

وإذا أمعنا النظر في وضع القارة الإفريقية مثلا، نجد أن معظم مشاكلها وحروبها ترجع إلى التعصب القبلي، ورفض قبول الآخرين. ولذا أمر إمام الله المهدي بإلغاء تلك الألقاب؛ وإرجاء الجميع إلى الكبير المتعالي مثبتا بأن اللقب ليس معيار الأفضلية، فالمعيار الوحيد هو التقوى كما قال تعالى :( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم  خبير) (الحجرات: الآية:13).

وهذا ما دفعه إلى ترك لقبه "اتياو" رغم كونه شريفا، والتساوي مع الجميع في مجتمع الناس فيه سواسية كأسنان المشط لا فضل لواحد على الآخر إلا بالورع والتقوى، في مجتمع أساسه التآلف والتراحم والتماسك...

تعمير الأرض:

في سبيل إصلاح الحياة الاجتماعية والدينية، أوصى إمام الله المهدي إلى تلاميذه بالسعي إلى ما يصلح المجتمع، والابتعاد عن كل ما من شأنه إدخال خلل فيه؛ فقال لهم "كونوا مشاة للخير وجلاسا للشر". فهذه الكلمات الوجيزة تكمن في أعماقها تعاليم ذهبية فيها صلاح المجتمع في كل المجالات. ولا ينبغي أن نفهم العبارة بصفة سطحية : فالمشي إلى الخير لا يقتصر على الذهاب إلى المساجد، وصلة الرحم وما إلى ذلك، بل يدخل فيه جميع الأعمال الخيرية: من بناء المدارس والمستشفيات، وحفر الآبار وإنشاء مؤسسات خيرية كما يذهب إلى ذلك الأستاذ لباس غاي في إحدى محاضراته حيث قال:" فالمشي إلى الخير هو المشي لفتح جمعيات خيرية وإنشائها لمحو شقاوة البشرية"[39]

والعكس جائز إذ يدخل في الجلوس للشر التنافي عن كلما يهدم المجتمع من التكتلات، والمخادعات، والاختلاس، والميسر، والمخدرات والفساد وما على ذلك. وهذا ما يؤكده الإمام المهدي في قوله "كونوا صلاحا ولا تكونوا فسادا" أي كونوا مصلحين ولا تكونوا مفسدين لأن الله لا يحب الفساد.

الحفلات الاجتماعية

أما فيما يخص الحفلات الاجتماعية، والتي تشكل اليوم أكبر مناسبة للهو والتبذير، فقد أوصى الإمام المهدي تلاميذه أن يقضوها كما أمر به الإسلام، وأن يجتنبوا فيها اللهو والغناء والرقص؛ وعلى الزوج أن يسهر على ذلك وإلا سيحاسب عليه، فيقول الزوجة للمولى " هذا زوجنا (...) ولم ينهنا عن اللهو والرقص والغناء والفضول والكلام القبيح"[40]

بدلا عن ذلك، يجب أن يقضوها بذكر الله شاكرين أو صابرين.

ومن جهة أخرى نهاهم إمام الله عن التبذير وإنفاق أموال طائلة فيما لا يجب إلا غضب الله وسخطه. فيجب على اللهيني أن يكون مصلحا في كل مناسبة، مهتما بما فيه رضا الرحمن ومنفعة الأمة. فالحفلات الاجتماعية بالكيفية التي تحتفل بها على اللهو والغناء والتبذير متنافية مع تعاليم إمام الله المهدي، سواء في ذلك الوليمة والعقيقة حتى المأتم.

وقد خص إمام الله خطبة للمأتم يوبخ فيها تلاميذه، وينهاهم عن الاجتماع في دار الميت في المأتم، لأن ذلك قد يتعب أهل الميت، وقد يجلب الحرام في الطعام؛ فقال " بعد دفن الميت ورجوع الشياع وتعزية العيال والإخوان، فانتشروا وافترقوا وانصرفوا إلى دياركم"[41]

وذلك ما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة جعفر في حديث عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم أو أمر يشغلهم"[42]

فليس من المعقول أن يجمع أهل الميت بين ألم الوفاة وحيرة النفقة. وقد يؤدي بهم ذلك إلى الاقتراض أو استخدام الحرام، كما يؤدي إلى التسافل والتباغض "فيقولون لم يأت فلان، وما رأينا فلانا، وفلان أتى ولم يعطنا شيئا، وفلان كذا كذا، وذلك ليس في الإسلام من شيء، هو غيبة وظلمة"[43]

وعلى هذا الأساس، نهى الإمام المهدي تلاميذه عن ذلك فقال :"لا تجتمعوا في دار الميت بعد وجوع الشياع، ومن أراد أن يتصدق عن الميت فليحضر قلبه ويتضرع إلى الله سبحانه بالدعاء له في البيت"[44]

الحث على العمل:

إن من أكبر واجبات المسلم العمل لدنياه ليجد ما يسد به حاجاته، ويدفعه عن ذل السؤال والتسول. وهذا العمل عبادة حثه الله عليها في كتابه العزيز حيث قال:(وإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) (سورة الجمعة : الآية 10)

وعلى هذا الأساس كانت لجميع الأنبياء حرف يحترفون بها للعيش من عرق جبينهم، لأن خير ما يأكل الإنسان ما يأكله من عمل يده؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عن المقدام رضي الله عنه :" ما أكل أحد طعاما قط خيرا  من أن يأكل من عمل يده"[45].

وقد كان صلى الله عليه وسلم راعي الغنم، وتاجرا وهو خير خلق الله أجمعين. وسيدنا إمام الله كان جامعا بين التجارة والفلاحة والصيد البحري. ومن ثمّ ربى أتباعه على العمل وأغراهم به. فكان يأمرهم بالعمل لأنفسهم، ويرسلهم إلى بساتين قومه ليزرعوا لهم بدون أجر يتقاضونه منهم[46]. فكان ذلك مساهمة كبيرة في محاربة الفقر ورفع الدخل السنوي للأفراد.

ومن جهة أخرى ألح الإمام المهدي في وجوب كون العمل عملا حلالا لا يتنافى مع روح الشريعة الإسلامية، فالغاية تقتصر على التحصل على رزق حلال طيب. وفي ذلك يقول:"لا تأكلوا إلا طيبا، ولا تركبوا إلا طيبا، ولا تلبسوا إلا طيبا، ولا تفعلوا في جميعا ما تنتفعون به شيئا إلا طيبا، والطيب هو الحلال؛ فإن أول ما يشق من بطن ابن آدم يوم القيامة الحرام، فإن المال يفسده الحرام فإن كأس دم يفسد صفحة لبن، وكذلك قليل من الحرام يفسد كثيرا من الحلال. وعلامة القبح للإنسان أن  يأكل ما يشتهيه ولا يبالي بحلاله ولا بحرامه وشبهاته".[47]

وعلى هذا الأساس يكون اللهيني مضطرا إلى مراقبة أمواله كي لا يفسده المال الحرام  كما يفسد الدم اللبن ، فيتجنب مصادر المال الحرام من السرقة، والربا، والميسر، والاختلاس، والمخدرات وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها، ويجعل همه العمل بيده للتحصل على رزق طيب مبارك ينفع به نفسه وأسرته ويعين به الفقراء والمساكين.

وقد ألح الإمام في أوجه الإنفاق المال الطيب ، بأن يكون فيما يرضي الله ورسوله فقال:" ولا ينفعكم من مالكم إلا ما أكلتم فأفنى، وما لبستم فأبلى، وما قدمتم لله  ورسوله" وقد حارب في ذلك كل أنواع  التبذير والفساد، وكذلك البخل وادخار المال دون إنفاقه في المشاريع الخيرية وتعمير الأرض وتحسين أوضاع أفراد المجتمع.  وقد ألح في النفقة على الأسرة وأوسع دائرة الزكاة إلى الفواكه والرواتب الشهرية لكي يكون حلا نمحو بها الفقر والشقاوة في مجتمعاتنا.

هكذا عاش سيدنا إمام الله المهدي مصلحا اجتماعيا، ومرشدا كبيرا ربى قومه ونجح في إقامة مجتمع مثالي ، أساسه القسط والعدل والتحابب والتآلف، فأصبح أتباع يشار إليهم بالبنان لصلاحهم وصفائهم.

وقد انتقلت روحه الزكية إلى جوار ربه في ليلة الجمعة الرابعة عشر من شهر شوال سنة 1328 هـ موافقة 1909 م وكان في السادسة والستين من عمره، ثم دفن في موضع خلوته لصلاة الضحى في يُوفْ، في كثبان بالقرب من البحر يسمى "جَمَلاَي" Diamalaye  أي عافية الله، بعد أن صلى عليه خليفته الأول سيدنا عيسى روح الله.[48]

الأستاذ إبراهيم صامب

اللجنة العلمية

 

 

[1] ) علي جنك صمب، آثار الثقافة العربية اٌلإسلامية في المجتمع السنغالي، رسالة ميتريز جامعة الزيتونة بتونس 2001، ص14.

[2] Voit Vincent Monteil. L’Islam noir. 3 édition. Paris : Edition du SEUIL. 1980. P 62 au P 70.

[3] ) عامر صمب، الأدب السنغالي العربي، ج:1، ص20.

[4] ) Cheikh Tidiane Diene. Le syncrétisme religieux en milieu lébou. Mémoire DEA (UCAD) 1997/1998. P 1.

[5] ) عامر صمب، الأدب السنغالي العربي، ج:1، ص:15.

[6] ) ناقي، محمد سلام، ، الإسلام والتقاليد القبلية في إفريقيا، مطبعة النهضة العربية، 1996، ص:67.

[7] ) سوزي أباظة محمد، صورة لمجتمع غرب إفريقيا من خلال أسئلة اللتموتي والأسكيا، ص:62.

[8] ) سوزي أباظة محمد، مصدر سابق، ص:65.

[9] ) شيخ تجان جين، مصدر سابق، ص:14 – ص:15.

[10] ) راجع باي دن بات، جواب السائل في مناقب الحلاحل، ص1.

[11] ) راجع الشيخ مختار لو، بشرى المحبين وتيقيظ الجاهلين، مراجعة وتحقيق محمد جوب، دكار 1995، ص:3 وما بعدها.

[12] ) المصدر نفسه، ص:4.

[13] ) بشرى المحبين، مصدر سابق، ص:8.

[14] ) جواب السائل، مصدر سابق، ص:2.

[15] ) محمد بن محمد بن مبارك، شرح بن عاشر، بيروت: المكتبة الشعبية، ص:8.

[16] ) نذكر منها شيئا يسيرا. ومن أراد أن يعرف منها أكثر فليرجع إلى كتاب " بشرى المحببين وتيقيظ الجاهلين" للشيخ مختار لو ، وكتاب " جواب السائل " للشيخ باي دن بات.

[17] ) بشرى المحبين، مصدر سابق، ص:14.

[18] ) المصدر نفسه، ص:

[19]) راجع غاي، محمد الصغير، إرشاد عباد الله إلى الصواب من خطب إمام الله، دكار: مطبعة الرأس الأخضر، ص:24.

[20] ) بشرى المحبين، مصدر سابق، ص:19 – ص:20.

[21] ) المصدر نفسه،ص: 20 وما بعدها.

[22] ) ذكره حسن سيلا، مصدر سابق، ص:626.

[23] ) المصدر نفسه، ص: 632 وما بعدها.

[24] ) نفسه، ص:634- ص:635.

[25] ) إرشاد عبادالله إلى الصواب ، مصدر سابق، ص:9

[26] ) شاعر مصري حديث توفي في سنة 1932م، وتطغى النزعة الاجتماعية والتاريخية على شعره.

[27] ) المصدر نفسه ، ص:24.

[28] ) نفسه، ص: 27.

[29] ) إرشاد عباد الله إلى الصواب، مصدر سابق، ص:4.

[30] ) نفسه، ص: 8.

[31] ) نفسه ، ص:7.

[32] ) إرشاد عباد الله إلى الصواب، ص:8.

[33] ) المصدر نفسه، ص: 6.

[34] ) المصدر نفسه، ص: 27.

[35] ) راجع: البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، بيروت: دار ابن كثير 1987، ج:1، ص:74.

[36] ) إرشاد عباد الله إلى الصواب، مصدر سابق، ص:25.

[37] ) غاي، محمد الصغير، تذكرة الجماعة بعلامة الساعة، دكار: مطبعة الرأس الأخضر، ص:17.

[38] ) المصدر نفسه، ص:25.

[39] ) هو نجل الإمام محمد الصغير غاي، ذكر ذلك في محاضرة حول الحفلات الاجتماعية.

[40] ) إرشاد عباد الله إلى الصواب، مصدر سابق، ص:9.

[41] ) المصدر نفسه، ص:29.

[42] ) ابن ماجه، سنن ابن ماجه، بيروت: دار الفكر، ج:1، ص:514.

[43] ) إرشاد عباد الله إلى الصواب، مصدر سابق، ص:30.

[44] ) المصدر نفسه، ص:30.

[45]) صحيج البخاري، ج:2، مصدر سابق، ص:730.

[46] ) راجع "بشرى المحبين..." مصدر سابق، ص:32.

[47] ) إرشاد عباد الله إلى الصواب، مصدر سابق، ص:7.

[48] ) راجع غاي، محمد الصغير، تذكرة الجماعة بعلامة الساعة، دكار: مطبعة الرأس الأخضر، ص:24.

bottom of page